ظلت مكة تداعب مخيلة غير المسلمين الذين لم يكن مسموحاً لهم دخولها، ونسجت الحكايات والأساطير الغربية الأوروبية حولها وحول مناسك المسلمين فيها. وسواء كانت تلك الحكايات صحيحة أم من وحي خيالهم، فإنها تركت أثراً في نفوس الأوروبيين الغربيين غير المسلمين جعلت فئات منهم تتوق شوقاً لزيارة مكة. وبدأت رحلات الأوروبيين نحو مكة المكرمة منذ مرحلة مبكرة ضاربة في العصور الوسطى وحتى العصر الحديث، وربما بلغت حتى القرن التاسع عشر الميلادي نحو اثنتي عشرة رحلة. وشهد القرن العشرون عدداً متزايداً بدرجة ملحوظة في أعداد الأوروبيين الذين زاروا مكة المكرمة سواء ظاهرين أم متخفين في الزي الإسلامي تارة وفي لباس الحج تارة أخرى. ويعد جول جرفيه كورتيلمون؛ أحد الأوروبيين القلائل الذين استطاعوا تحقيق رغباتهم في دخول حرمي مكة المكرمة والمدينة في وقت كان يصعب على غير المسلم الدخول إليهما، فضلاً عن استخدام الكاميرا لالتقاط الصور الفوتوغرافية. وتحفظ لنا المصادر التاريخية أسماء أشخاص، قاموا بهذه الرحلة وحققوا مبتغاهم؛ مثل دومنغوباديا، ريتشارد برتون وليون روش. ورحالتنا مصور فوتوغرافي فرنسي كان مقيماً في الجزائر في أواخر القرن التاسع عشر، وكان واحداً من الفرنسيين الذين هاموا بالمشرق وأحبُّوا حياته الرومانسية بصدق المشاعر وأصالة الأخلاق والقيم الإنسانية، وأثاره قيام القنصل الفرنسي ليون روش في عام 1841 برحلة حج من الجزائر إلى مكة المكرمة فقرر في عام 1894 القيام برحلة مماثلة على خُطاه، ليختبر بنفسه هذه التجربة الروحية الفريدة، وسافر بجواز سفر يحمل اسم عبد الله بن البشير. كان شغوفاً بحب الاستطلاع، فشرع بالاهتمام بالإسلام، هذا الدين الذي يحيط به من كل جهة في حياته منذ وصوله إلى الجزائر، وكانت فيها آنذاك جمعية كبيرة هي «كونكورديا» تضم الأدباء والمثقفين، وغالبية أعضائها من علية القوم في الجزائر، يغدو كثير منهم من كبار الصحافيين في الجزائر وباريس، ومن ممارسي المعاملات التجارية الكبرى. عقد كورتيلمون صداقات مع عدد من أعضاء هذه الجمعية، وعرف كيف يستثمر هذه الصداقات. وكان كورتيلمون محباً للترحال، فسافر إلى مناطق مختلفة من الجزائر والقاهرة والقدس ودمشق، وعاد بزادٍ من الصور التي نشرها في مجلة أسَّسها، وكان يعرض صوره للبيع في معرضه في شارع «ترواكولور» في مدينة الجزائر العاصمة، وبسبب ما يسمعه من الحجاج القادمين من مكة أحبَّ أن يذهب إليها ويرى بنفسه ويصور هذه المدينة المقدسة. يقول: «رغبتُ في كشف سر هذه المدينة المقدسة ليس لإتمام رحلتي كبقية الرحلات، وإنما الدافع هو أن أكمل أبحاثي حول الشرق المعاصر، هذا الشرق المسلم الذي أخذتُ على عاتقي أمر وصفه مجتازاً إياه بكل الاتجاهات. لقد أمضيتُ شبابي فيه وأنا أحبه كما يحبه كل من عرفه». وعن حبه للإسلام وأهله يقول: «أما بالنسبة إلي فأنا أحب الشرق بسمائه الزرقاء، وأحب الإسلام ببساطته، وأعجب بمعتقداته الراسخة». تعرّف إلى رحّالة من الجزائر «الحاج أكلي» وعرَّفه برغبته في الذهاب إلى مكة، فعرض فكرته على حاكم الجزائر الفرنسي «كامبون»، فأبدى اهتماماً وأعطاه جواز سفر باسم «عبد الله بن البشير»، ولكن على مسؤوليته الخاصة. وانطلق في الرحلة علم 1894، وكان له من العمر 31 سنة، وأعلن حبه للإسلام ومارس شعائر الصلاة، والصيام والحج بكل تقى، وتفاعل مع أصدقائه من الجزائريين ومن أهل الحجاز بكل مودة، وإن كان خشي من الإقرار بإسلامه في كتابه هذا الذي نشر في فرنسا عام 1896، فادعى أنه: «يحب الإسلام ببساطته ومعتقداته الراسخة، من دون أن تكون له الجرأة على اعتناقها». لكن مع ذلك يبقى الكتاب وثيقة وجدانية شفافة تدل على تفاعل إيجابي حميم من مثقف غربي تجاه حضارتنا الإسلامية. ثم قام برحلة إلى إقليم التبت في الصين عام 1902 ونشر وقائع رحلته في كتاب عام 1904، واستغرقت تلك الرحلة أكثر من سنة، وبعد عودته ذهب إلى باريس وألقى محاضراته عن مكة والتبت وعرض صور تلك الرحلات. وعايش كورتيلمون إنشاء سكة حديد دمشق - المدينة المنورة، واشتغل فيها 55 مهندساً تركياً بالإضافة إلى مهندسين غربيين؛ أحدهما فرنسي والآخر ألماني (مايسنر). كما تمت الاستعانة بنحو سبعة آلاف جندي من الجيش التركي، وكلف المشروع 93 مليون فرنك فرنسي، وبلغ طول السكة 1320 كلم، ودشنت مع نهاية فصل صيف عام 1910، ولما كان انتشار وباء الكوليرا خلال رحلة كورتيلمون إلى مكة المكرمة عام 1894 منعه من زيارة المدينة المنورة للصلاة في مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتشرف بالسلام عليه، فقد عمل المستحيل للتوجه على متن القطار إلى المدينة المنورة من أجل التقاط الصور للمسجد النبوي الشريف على وجه الخصوص، والمدينة على وجه العموم. وفي أوائل أيلول (سبتمبر) عام 1910 استقل القطار مع أعضاء لجنة تنظيمية كان تقرر إرسالها لحضور حفلة تدشين محطة سكة الحديد في المدينة المنورة، وقام بالتقاط صور كثيرة، منها صور للمسجد النبوي الشريف، وهي من أقدم الصور الملونة لهذا المسجد، وتوجد هذه الوثيقة التاريخية في متحف روبير لينين السينمائي في باريس. وأول طبعة صدرت لكتابه نشرتها مكتبة هاشيت في باريس عام 1896، وسرعان ما تلتها طبعة ثانية في العام ذاته نظراً إلى إقبال القراء عليه ولجمالية صوره التي تعد من أوائل ما اطلع عليه الأوروبيون من صور مكة في ذلك العصر، حتى أنها أتت بعد فترة غير طويلة مما نشره الهولندي كريستيان سنوكهورخرونيه (الحاج عبد الغفار) في كتابه «أطلس الصور عن مكة» الذي صدر في لاهاي عام 1888. ونشر كورتيلمون في كتابه 33 صورة بالإضافة إلى صور بانورامية لمكة المكرمة مطوية داخل الكتاب، وعدا عن ذلك قام في عام 1897 بنشر مجموعة جديدة من الصور التي سجل من خلالها وقائع الحياة الاجتماعية للمسلمين ووصفه الأدبي بما خطه من أوراق بعد عودته إلى موطنه كأوروبي متوشّح بإحرام حاج لبيان صورة مكة تسمو بها مضامينها ومحتوياتها لتشكل «وثيقة»، ومصدراً، وأداة لا غنى لمؤرخ المدينة عنها، جنباً إلى جنب مع وثائق ومصادر وأدوات ووسائل أخرى. وتشكل هذه الكتابات محطة ضرورية، ضمن محطات أخرى، في الطريق إلى كتابة تاريخ مكة ودراسته.
مشاركة :