إذا الشعب يومًا أراد الحياة

  • 8/24/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

فيما أتابع الأخبار المفرحة الواردة من السودان حول الإعلان عن تشكيل «المجلس السيادي»، أفكر كم هي طويلة ووعرة ومخضبة بالدماء طريق الحصول على الحرية، وأتوق إلى مصافحة كل سوداني وسودانية ناضل من أجل بناء مستقبل أفضل لبلده، وليأخذ هذا البلد العربي العملاق مكانته التي يستحق بين الدول بعد عقود من التخلف والانصياع والضياع. وقد وصلتُ إلى نتيجة مفادها ضرورة أن يتعلم العالم العربي كله من دروس انتفاضة السودان الأخيرة، والتي رسمت طريقًا حقيقية وصحيحة، وتعاون معها الجميع، بما فيهم الجيش الذي أثبتت الأحداث أخيرًا التزامه الوطني، وانحيازه إلى مطالب الناس المحقة في التغيير، ودعمه للتغييرات اللازمة من أجل انقاذ البلد والشعب بكل فئاته. وأكثر ما شد انتباهي في الأحداث الأخيرة المتسارعة في السودان هو رفض الشارع لتشكيلة المجلس السيادي بناءً على المحاصصة المناطقية أو الجغرافية أو الدينية أو العرقية، وتأكيد السودانيين على أن معيار التعيين في هذا المجلس يجب أن يكون هو الكفاءة والقدرة على إدارة شؤون البلاد في هذه الفترة الحرجة، وليس أي اعتبار آخر. أقول بملء فمي، وبكامل قواي العقلية والجسدية: يا حبذا نتعلم نحن كلبنانيين من السودانيين، وأن نجلس في حضرتهم بتواضع، نفكر بعمق كيف أن فطرتهم السليمة قادتهم إلى رفض المحاصصة في الحكم، وتأكيدهم على أن مجلس أو حكومة تكنوقراط أو كفاءات تبني البلد أفضل بكثير من حكومة يعتقد أعضاؤها أنهم موجودون فيها بحكم تمثيلهم العددي وانتمائهم الطائفي، ليس إلا. إن فكرة تقاسم السلطة أو مقاعد الحكومة بناءً على التمثل المناطقي أو الطائفي تعارض تمامًا مبدأ الحكم الرشيد، بل إنها فكرة غبية وكارثية بكل معنى الكلمة، لأنها تقود إلى تكريس المناطقية والطائفية في البلد، وغياب المساءلة وارتفاع معدلات الفساد والإفساد، وإشغال الناس بالشعارات الرنانة حول أهمية الدفاع عن الطائفة والمنطقة، وتعميتهم عن حاجاتهم الأساسية في التنمية والتعليم والعمل والصحة والخدمات الأساسية. لقد شهد لبنان خلال السنوات الماضية مظاهر رفض للمحاصصة الطائفية، وخرج طلاب ومثقفون وعامة الناس في مظاهرات هنا وهناك، ولكنهم لم يتمكنوا مع الأسف من الوصول إلى المستوى المطلوب من القوى الضاغطة لإجراء التغيير، ودائمًا ما كانت الغلبة للأحزاب والأطراف المستفيدة من الوضع السائد حاليًا. ثم ظهرت بدعة أخرى للخروج من حالة الاستعصاء السياسي في لبنان، وهي تعديل القانون الانتخابي الجديد على أساس لبنان دائرة واحدة مع إلغاء الصوت التفضيلي، وهذا ما أضاف إلى المشهد السياسي المشحون بالسجالات التي باتت تنفجر بوتيرة شبه يومية، ملفًا ملتهبًا جديدًا يغرق الجميع في دهاليزه قريبًا. إن مشهد الاحتفالات في السودان بعد توقيع الوثيقة الدستورية بين المجلس العسكري وقادة الحركة الاحتجاجية يبعث على السعادة والأمل، تلك الوثيقة التي شأنها أن تمهد لبدء مرحلة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، ويفترض أن تنقل البلاد الى حكم مدني يضمن حياة أفضل للسودانيين ومزيدًا من الحريات، ولقد أجمع المسؤولون والمحتفلون بهذا الاتفاق من مسؤولين من دول خليجية وعربية وعالمية على اعتباره بداية لـ«سودان جديد» يشهد العالم ولادته حاليًا. وإن انتقال الحكم في السودان من «المجلس العسكري» إلى عهدة «مجلس سيادي» من 11 شخصًا، ليصبح السلطة العليا في البلاد، ومشاركة امرأة في قمة هرم السلطة للمرة الأولى، بالإضافة إلى شخصية مسيحية، لهو سابقة تعكس طبيعة التحوّل الذي طالب به قادة الحراك الشعبي في إطار تمثيل جميع فئات المجتمع السوداني، وهذا أمر جيد برأيي، ولا ينم عن محاصصة دينية أو جندرية. إن السودان اليوم أمام مرحلة جديدة من شأنها الإجابة عن سؤال بسيط ومعقد في وقت واحد، وهو كيف لهذا البلد الذي تبلغ مساحته نحو مليون كيلومتر مربع من الأراضي الخصبة ولديه ثروات طبيعية هائلة أن يعاني أهله من فقر مدقع وجوع دفعهم للخروج بمظاهرات نتيجة لتردي أوضاعهم الاقتصادية؟ فيما دولة صغيرة مثل هولندا تبيع المنتجات الحيوانية والأزهار للعالم وتحتل مقدمة قائمة دول العالم التي يحقق مواطنيها معدلات دخل سنوية عالية جدًا؟ لا أعتقد أن هناك ضيرًا من إيلاء مؤسسة الجيش مسؤولية إدارة شؤون البلاد مؤقتًا، فهي المؤسسة الأكثر تنظيمًا في أي دولة، ولديها بوصلة وطنية محددة، ويجري اتخاذ القرارات فيها وإعطاء الأوامر بتراتبية واضحة، ويعمل أفرادها بتناغم، وأرى أن المؤسسة العسكرية في السودان تنهض بدورها الوطني في العبور بالبلاد والعباد إلى حافة الأمان. المؤسسة العسكرية في لبنان أيضًا مشهود لها بالكفاءة والنزاهة، وتمثل نقطة التفاف والتقاء بين معظم اللبنانيين، هذه المؤسسة تنهض بمهامها الدستورية في الدفاع عن لبنان، وطبعًا ليس مطلوبًا منها العمل أو التدخل في السياسة، رغم أنها شكلت على الدوام جسرًا يعبر من خلاله قادتها إلى سدة الرئاسة في لبنان. نسمع كثيرًا بمصطلح «الفرقاء اللبنانيين»، ولا أدري صراحة من الذي ابتكر هذه المصطلح أو استخدمه لأول مرة، لكنه بلا شك استطاع استنباط مصطلح يعبر تمامًا عن الحالة اللبنانية، فاللبنانيون في الحكومة ومجلس النواب والشارع ليسوا أحزابًا أو كتلاً أو جماعات أو فرقًا، بل هم في حقيقة الأمر «فرقاء» بما لهذه الكلمة من مدلول ومعنى، والتجربة السودانية هي درس حي أمامهم الآن، ليتعلموا ويستفيدوا منه، عساهم يتمكنون من إعادة لبنان إلى مكانته الحضارية التي يستحق، وأن تكون جميع مكونات الشعب اللبناني فريقًا واحدًا، فريق الحياة الكريمة والعمل والإنتاجية والتقدم، فريق لبنان.

مشاركة :