مثَّل هاجس النُّهوض والتَّجديد قاسمًا مشتركًا بين روَّاد النَّهضة العربية إبَّان القرنين الثَّالث عشر والرَّابع عشر الـهجريين/ التَّاسع عشر والعشرين الـميلاديين. فمنذ القرن الـحادي عشر الـهجري/ السَّابع عشر الـميلادي، تعرَّض العالـم الإسلاميُّ برمَّته إلى خطر الاستعمار الذي نجح في تطويقه من جزر الـهند الشَّرقية، وصولا إلى دول شمال إفريقيا، وكان من نتائج ذلك أن بدأ العالـم الإسلاميُّ يتهاوى رُكنًا من بعد ركنٍ، ويتداعى بصورةٍ غير مسبوقة. ضمن هذا السِّياق العام، تتنزَّل جهود الـمفكِّر الـجزائري مالك بن نبي (1323- 1393هـ/ 1905- 1973م)، ومشروعه يعدُّ علامة فارقة في إطار الـمشاريع النَّهضوية الكُبرى في الأزمنة الـحديثة؛ والسَّبب في ذلك يعود إلى تقديمه مشروعًا عربيًا إسلاميًّا لعلم تاريخ الأفكار؛ وذلك من خلال إبداع وحداتٍ فكريةٍ تحليليةٍ لمجموعة من الظَّواهر الاجتماعية والسِّياسية والثقافية في أن معًا. وتبعًا لذلك؛ تتغيَّا هذه الدراسة الإبانةَ عن سؤال النَّهضة في فكر مالك بن نبي؛ من خلال التَّركيز على مركزية مفهوم السُّنن التَّاريخية والاجتماعية في مشروعه الفكريِّ الـحضاريِّ. وتتأتَّى أهمية هذا الـمفهوم، بأنه يعبِّر عن جوهر مشروع مالك بن نبي. وقد عوَّلت في هذه الدَّراسة على الـمنهج التَّحليلي النَّقدي؛ إضافة إلى الـمنهج التَّاريخي. وتتكوَّن الدِّراسة من العناصر الثلاثة التَّالية: أولاً: من سؤال النَّهضة إلى نقد النَّهضة: الـماضوية وطغيان التَّقليد أنموذجًا. ثانياً: الإطار الوظيفي لمفهوم "الـحضارة" في فكر مالك بن نبي. ثالثاً: مركزية السُّنن التَّاريخية والاجتماعية ودورها في التَّغيير. أولاً: من سؤال النَّهضة إلى نقد النَّهضة: الـماضوية وطُغيان التَّقليد أنموذجًا "والـحقيقة أن أقلَّ ما كنَّا نتعرَّض لخطره في سنة 1962؛ هو مُشاهدة الاستعمار، يخرج من البـاب؛ ليعودَ من النَّافذة". في كتابه العُمدة شروط النَّهضة يُسائل مالك بن نبي حركات الإصلاح والتَّجديد؛ على الرُّغم من انخراطه فكريًّا وعمليًّا في مشروعها، واهتمامه بالتأريخ لها. فالـمجتمع الـجزائريُّ الذي تربَّى فيه مالك بن نبي، شأنُه شأن الـمجتمعات العربية الإسلامية، كان لا يزال غارقًا في بحر الـخرافات وانتظار الـمعجزات، إلى أن استيقظت الأمَّة العربية الإسلامية على نداء مُوقِظ الشَّرق السَّيد جمال الدِّين الأفغاني (1254– 1314هـ / 1838- 1897م) ؛ داعيًا إيَّاها إلى يومٍ جديدٍ وزمنٍ جديدٍ. مما لا شك فيه أن مشروع مالك بن نبي لم يكن بمعْزلٍ عن السِّياقات الفكرية الأخرى التي اشتغلتْ على سؤال النَّهوض والتَّجديد: نشأةً، وسيرورةً، ومآلًا؛ وفي مقدِّمتها: مشروع الإمام محمَّد عبده بتفرُّعاته الـمختلفة، حيث يَعْتبر مالك بن نبي نفسَه أحد أعضاء حركة الإصلاح والتَّجديد، مثلما كان مُقرّبًا من جمعية العلماء الـمسلمين الـجزائريين؛ التي تمَّ تأسيسُها في العام 1931، برئاسة الشَّيخ عبد الـحميد بن باديس (1307- 1359هـ/ 1889- 1940م)؛ بهدف "تعميق وعي الأمَّة بالـمقوِّمات الـحضارية والثقافية للإسلام، ودوره في حفظ الكيان الـجزائري من التَّدمير، الذي يتعرَّض له [بسبب الاستعمار]، والـحفاظ على ما يسمِّيه الشَّيخ: الذَّاتية الـجزائرية العربية الإسلامية". وبطبيعة الـحال؛ فإنَّ سؤال النَّهضة لم يكن منبت الصِّلة في فكره عمَّا خطَّه مُعاصره الشَّيخ طنطاوي جوهري (1279- 1358هـ/ 1862- 1940م)، في كتابه: نهضة الأمَّة وحياتها، وبما سبق أن طرحه الأمير شكيب أرسلان (1869- 1964) في كتابه: لماذا تأخَّر الـمسلمون وتقدَّم غيرهم؟ كما اطلع مالك بن نبي بصورة خاصَّة على ما كتبه أحمد رضا في كتابه: الإفلاس الـمعنوي للسِّياسة الغربية في الشَّرق، ورسالة التَّوحيد للأستاذ الإمام محمَّد عبده؛ حيث يعتبر أن هذين الكتابين كانا بمثابة الينابيع البعيدة والـمحدِّدة لاتجاهه الفكريِّ؛ وكذا مقدِّمة ترجمة رسالة التوحيد، التي كتبها الشَّيخ مصطفى عبد الرَّازق (1304 تقريبًا- 24 ربيع أول 1366هـ / 1885- 1947م)، وعرض فيها لثراء الفكر الإسلاميِّ عبر العصور. والواقع أن كتاب شروط النَّهضة يُلخص- أن لم نقل: يُعبِّر في جوهره ومضمونِه- عن الـمشروع الفكري لمالك بن نبي برُمَّته. ويكفي للدّلالة على هذا؛ شبكة الـمفاهيم الـمستخدمة في هذا الكتاب وفي مقدِّمتها: التَّاريخ، الـحضارة، الثَّقافة، الزَّمن، السُّنن، التَّغيير، النَّهضة ...الـخ، لندرك كلًّا من: الأصالة في العرض والتَّفكير، والعُمق في التَّحليل والتَّقديم؛ فضلًا عن الصَّرامة الـمنهجية مُنقطعة النَّظير على مستوى كلٍّ من النَّقد والتَّمحيص. من جهة أخرى؛ يكشف شروط النَّهضة عن تواصل مؤلِّفه مع سؤال النَّهضة العربية، الذي اعتنى به رجالات الإصلاح والتَّجديد. وكما لاحظ الأستاذ أحميدة النَّيفر؛ فإنَّ ما تُبرزهُ لنا ابتداءً قراءةُ كتابه وجهة العالـم الإسلاميِّ في سلسلة: مُشكلات الـحضارة؛ هو هذا التَّموقُع الفكري الذي يحرص مالك بن نبي على إبرازه حين كان يتناول مسألة النَّهضة، التي تولَّى الإصلاحيون العرب ترْكيزها في القرن التَّاسع عشر الـميلاديّ. ففي هذا الأثر الـمنهجي- على وجه الـخصوص- نُدرك نوع العلاقة النَّقدية التي حرص مالك بن نبي على إرسائها مع الفكر الإصلاحيِّ؛ والذي يتَّضح من خلال تقويمه لأبرز الوجوه الإصلاحية؛ كجمال الدِّين الأفغانيِّ، ومحمَّد عبده، والسيِّد أحمد خان (1233- 1316هـ/ 1817- 1898م)، ومحمَّد رشيد رضا (1282- 1354هـ/ 1865- 1935م)، وغيرهم. أمَّا على مستوى الـحياة العملية لمالك بن نبي؛ فقد لعبت الآثارُ الفكريَّة التي خلَّفتها حركة الإصلاح والتَّجديد الإسلاميِّ دورًا كبيرًا في تصحيح الـمسار الفكريِّ لمالك بن نبي، الذي غادر الكُتَّاب في قسنطينة ولمَّا يتجاوز سورة الأعْلى؛ وفضلاً عن ذلك؛ فإنَّ تفرغه للدِّراسة في الـمدرسة الفرنسية أوقعه في حيرةٍ من أمره؛ بسبب انجذابه إلى عناصر الأصالة فيه: تراثًا، وترابًا، وإنسانًا. وقد تحقَّق له شيءٌ من التَّوازن النفسيِّ أوَّلا بفضل مُعلِّمته للغة العربية "بهيجة" في القسنطينة، وبفضل الشَّيخ "مولود بن موهوب" ثانياً؛ الذي يدعوه بأستاذ الـمدرسة وفتى الـمدينة. وفي السِّياق ذاته، كان لشخصية صديقه "محمَّد بن السَّاعي" (1902- 1998م)، دورًا مركزيًّا في توجيه أفكاره باتِّجاه التَّفسير الاجتماعيِّ لآيات الذِّكر الـحكيم، والتَّفسير السُّوسيولوجي لظواهر وقضايا الـحياة بصفة عامَّة. وفي الواقع؛ لم يُخْفِ مالك بن نبي أمرَ ازدواجية تكوينِه الـمنهجيِّ الـموزَّع على خلفيتيْن شبه مُتناقضتيْن: الـخلفية السَّلفية التَّقليدية، والـخلفية الفرنسية الـحداثية، والـحال أنَّه كثيرًا ما كان يستغرقُ في التَّوجُّه الدِّيكارتي الصَّارم، بحيث لا ينْتشله منه إلا مُطالعته لكتب التَّوحيد والسِّيرة النَّبوية، وما تُشكِّله من عودةٍ رُوحيةٍ إلى أصوله الـحضارية. وبشكل عام يمكن القول: لقد ساعدت هذه الازدواجية الـمعرفية- التي طبعت الشَّطْرَ الأوَّل من حياته- على الإفادة من الـمناهج الفلسفية، ممَّا انعكس بصورة إيجابية على كتاباته لجهة الدِّقة في التَّحليل، والقوَّة في الاستدلال، والصَّرامة الـمنطقية في الاستنتاج. وممَّا زادها إحكامًا؛ اطِّلاعُ مالك بن نبي الواسع على عيون الأدب والشِّعر العربيين، وكذا الشُّروح عليها؛ خاصَّة حافظ إبراهيم ومعروف الرّصافي ثانياً، واكتشف في مهْجَرِه أشعارَ جبران خليل جبران وإليا أبي ماضي ثالثاً، وأخيراً اطَّلع على عيون الأدب الفرنسيِّ؛ كقصيدة البُحيرة للامارتين، وبكى مع نظرات الـمنفلوطي وعبَرَاتِه. وفي السِّياق ذاته، كان مالك بن نبي مغرمًا بمطالعة ابن خلدون، إذ يعتبر أطروحته النَّظرية في العُمران هي الوحيدة في الثقافة العربية التي تناولت تأثير العوامل الاقتصادية في التَّاريخ. كما أخذ عن ابن خلدون أيضًا: الوعي السُّنَنِي ومُقتضياته؛ خاصَّة ما يتعلَّق بشروط التَّغيير الاجتماعي. وقد تمخَّض عن هضْمِه لابن خلدون؛ وعيٌ مُتزايدٌ من طرفه بطبيعة الإشكالات الاجتماعية والإنسانية؛ فضلاً عن الإشكالات الـمنهجية التي تُواجه العلوم الاجتماعية في البلاد الإسلامية؛ خصوصاً ما يتعلَّق بتحديد الـمفاهيم وتمثلِّها. ومن هنا تأتي عنايته الفائقة بضبط شبكة الـمفاهيم الـمسْتخدمة في كتبه، على نحو ما سنفصِّل القول فيه لاحقًاً. على أن النَّقلة النَّوعية في حياة وفكر مالك بن نبي كانت بسبب انفتاحه على كتابات روَّاد الإصلاح والتَّجديد؛ خصوصًا رسالة التَّوحيد للأستاذ الإمام محمَّد عبده، والـمقدِّمة التَّمهيدية التي كتبها الشَّيخ مصطفى عبد الرَّازق. فقد شكَّلت بالنَّسبة إليه أداة فعالة للتَّيقُّظ في الـمجال الفكري، وحالتْ من ثمَّ دون انجرافه إلى الرُّومانطيقية التي كانت شائعة آنذاك في أوساط ذلك الـجيل من الـمثقَّفين الـجزائريين بصفة خاصة. لكنَّ انخراط مالك بن نبي فعليًّا ضمن تضاعيف تيَّار النَّهضة لم يحل دون النَّظر في مشاريع الإصلاح والنُّهوض والتَّجديد بشكل موضوعيٍّ لا يخلو من النَّقد في التَّعاطي، والاستقلالية على مستوى التَّفكير، إذ ترتبط فعالية النَّقد في منظومته الفكرية بشرطين ضروريين، لا يُغني شرطٌ منهما عن الآخر؛ ألا وهما: الإخلاص للشَّهادة (الـجانب الـخلُقي). الكفاءة للحُكْم (الـجانب الفني). وتبعًا لذلك؛ فإنَّه ما لم يتوفَّر النَّقد على هذين الشَّرطين الرَّئيسين "فلن يُقوِّم اعوجاجًا، ولن يُصلح فسادًا؛ لأنه أعْرج لا يمشي على رِجْلَيْن، فلا يأتي بما يُقوِّم الأشياء، ولا بما يُكمِّل ويُوسِّع معانيها، ولا بما يهدي الأعمال إلى طريق الرَّشاد". وبشكل عام؛ يمكننا أن نستخلص أهمَّ عناصر النَّقد التي وجَّهها مالك بن نبي لمشاريع النَّهضة السَّابقة عليه في النِّقاط الـخمس التَّالية: أولاً: يحتلُّ النَّقد موقعًا مركزيًّا في رُؤية مالك بن نبي الـمتعلِّقة بمسارات الإصلاح والتَّجديد في الفكر الإسلاميِّ الـمعاصر، ومحاولة تقييمها. فمن جهة أولى؛ يؤكِّد مالك بن نبي أن النَّقد عبارة عن ممارسة فكرية راقية يتمُّ فيها تبادل الآراء، وليس عبارة عن كيل الشَّتائم وألفاظ التَّحيُّز. وهو لهذا يأسف كثيرًا بسبب عدم ترسُّخ وتجذُّر النَّزعة النَّقدية في عاداتنا الفكرية والاجتماعية، بحيث لم تستقر في عقولنا كمُمارسة مُثمرة، إذ لا يزال النَّقد والتَّشويه مُترادفيْن في لُغتنا واعتقاداتنا. ومن جهة أخرى، يؤكِّد أن فكر النَّهضة لم يستند إلى أطروحة مُتكاملة لجهة الأهداف والوسائل، وكذلك في ما يتعلَّق بالتَّخطيط والنَّظر الـمسْتقبلي، إذ غلب على مشاريع النَّهضة التَّقليد وضمر الإبداع. يقول في ذلك: "والـحقُّ أن الـحركات الـمختلفة للنَّهضة، التي ظهرتْ منذ خمسين عامًا في العالـم الآفروسيوي عامَّة وفي العالـم الإسلاميِّ خاصَّة، ليستْ إلَّا محاولات لوضع الـمشْكلة ضمنًا، وحلِّها في هذه الصُّورة (...) ولكنَّ حركة النَّهضة لم يُتَحْ لها جميعًا التَّأثير الفعَّال نفسه، إذ لا يصدر الإنسان فيها عن الفكر الـمنهجيِّ نفسه. ولقد كانت الـمحاولات في العالـم الإسلاميِّ خاصَّة مُتفاوتة في عُمْقها؛ لأنَّها لا تستند على نظريةٍ محدَّدةٍ للأهداف والوسائل، وعلى تخطيطٍ للمراحل. فالواقع أن الـمصْلحَ الإسلاميَّ لم يهتم بأنْ يرسم برنامجًا لإصلاحه مُقدِّرًا أن الزَّمن سيُوفَّق في حلِّ الـمشكلات، ولم يكن طموحُه مُتوجِّهًا إلى الـخلق والإبداع أكثرَ ممَّا هو مُتوجِّهٌ حتَّى الآن إلى التَّقليد". ثانياً: طرح مالك بن نبي سؤالًا استشكاليًّا حول النَّهضة في وقت بزوغها، باحثًا عن مدلولها، مؤكِّدًا أن الواجب أوَّلًا أن نُحدِّد الـمرض بالـمصطلح الطِّبي، وأن تكون عندنا فكرةٌ سليمةٌ وصحيحةٌ عنه؛ لأنَّ الشُّعور به لا يعني بداهة الدَّواء والاستشفاء. فالنَّهضة أوَّلًا وأخيرًا هي عبارة عن حركة ضمير، وحركة أمَّةٍ، تجمع في طيَّاتها بين سموِّ الفكر القرآنيِّ من جهة، ورَكْب الفكر العلميِّ الـحديث من جهة أخرى. وفي السِّياق ذاته عاب بن نبي على حركة النَّهضة العربية افتقادَها الـموهبةَ النَّقدية، وبذلك فقدتْ إحدى سمات التَّحضُّر الأساسية، حيث يحافظ النَّقدُ على فعالية الـمجتمع ويضْمن حيويته؛ وتلك وظيفة الثَّقافة داخل الفرد وداخل الـمجتمع. كما عاب على محاولات النَّهضة ثالثًا، أنَّها لم تتبنَّ الاجتهادَ كخيار استراتيجيٍّ في توجُّهها الأوَّل؛ كما كان عليه الأمر في العصر الإسلاميِّ الذَّهبيِّ؛ ممَّا عرَّضها لانتكاساتٍ بسبب طُغيان التَّقليد. ثالثاً: احتلت فكرة الـماضوية، أو الـحنين إلى الزَّمن الـماضي؛ زمن الإسلام الأوَّل، مكانةً مركزيةً في سياق نقد مالك بن نبي لمشاريع النَّهضة؛ وذلك بسبب أن الـخلفية الدِّينية هي الـمؤطِّر الـحقيقيُّ لمشروع النَّهضة. وبحسبه؛ فإنَّنا إذا حللنا جهود الـمصْلحين "وجدنا فيها حسْنَ النِّيَّة، ولكننا لا نجد فيها رائحة الـمنهج. بل أن حُسْن النِّية هذا قد تنحطُّ قيمتُه الاجتماعية أثناء التَّطبيق؛ سواء بدعوى أولئك الذين يرون أن مستقبل العالـم الإسلامي إنَّما يكمن في إعادة الـماضي برمَّتِه، أم بالتَّباهي التَّقدُّمي الذي يرى- كما يذهب إلى ذلك بعض الكماليين- أن الإصلاح رهنٌ بقطْع جميع صِلاتنا بالـماضي، وأن نُؤمن بأنَّنا نُنشئُ حضارةً، أي وضعًا عامًّا للحياة، وذلك بمجرد تظاهرهم بأزياء مستعارة - دون توفيق - من حضارة نضجتْ فعلًا، ومضى طورُ تكوينها". في الـمقابل من ذلك، أكد مالك بن نبي أن الاتِّجاه الصَّحيح لمجتمع ما يتمُّ رصْدُه من خلال تحديد اتِّجاه أفكارِه: فإمَّا إلى الـمسْتقبل، أو إلى الـخلف. وفي هذه الـحالة يكون الالتفافُ إلى الـماضي بصورةٍ مَرَضية مُعوِّقًا للنَّظر الـمسْتقبلي. فأمراضُ الـمجتمع لا تُشْفَى بذكر أمجاد ماضيه، وسوف تستيقظُ هذه الـجماهير في الغد، فتنفتح أبصارُهم من جديد، على مشهد الواقع القاسي الذي يُحيط بها في وضْعِها الذي لا تُغْبَطُ عليه اليوم. والـحال أنَّه كان معنيًّا بالـجانب العمليِّ من مشروع النَّهضة؛ لذلك نراه يؤكِّد على ضرورة إدخال ما يسمِّيه الـمنطق العملي عند تحديدنا لثقافةٍ ما، علاوةً على الـمعْطَى الأخْلاقي والـمعْطَى الـجمالي في الوقت نفسه. "فهذا الـمفهوم يجد تبريرَه بصورةٍ ملموسةٍ على نحو ما في الـمجتمعات النَّامية التي يمتدُّ فيها تطبيقُ الـمنهج الذي يُعْتَمَدُ إلى تنظيم العمل بشكلٍ مُنَمٍّ لمحصولِه – ليشمل جميع أشكال النَّشاط قاطبة. أمَّا تبريرُه العام؛ فيتولَّى التَّاريخ تقديمَه لنا؛ لأنَّ التَّاريخ نفسه ليس إلَّا تقويمًا لحركات اليد والفكر، فهو لا يعدو أن يكون في حدِّ ذاته غير ذلك فعلا في نهاية الـحساب". كما أن استيراد الـحلول يُعبِّر في جوهره عن العجْز والفشل، إذ لا بدَّ من وضع حلولٍ لعديد الـمشْكلات التي تُواجِهُها الأمَّة الإسلامية اليوم؛ وردِّ الاعتبار للأمَّة وتقدير مرْكزها، وتقدير طبيعة الـمرحلة التي تجْتازُها، من دون أن يُصْبح ذلك الـمسارُ انتحارًا. رابعاً: من بين الأفكار الرئيسة التي وجَّه لها مالك بن نبي سهامَ نقْدِه- في ما يتعلَّق بفكر النَّهضة في الـجانب الاقتصادي- مسألة نزوع الإنسان الـمسْلم الذي استسلم للتَّقليد في العادات والأذواق، لاستهلاك الأشياء التي صنعها الغيرُ وكدَّسها في عالـمنا، ممَّا يجعلنا أكثر ميلًا- في الـمجال النَّظري بصفة خاصة- إلى تقليد أفكار الغرب، التي صاغها من خلال خبْرته وتجاربه الـخاصَّة. وضمن هذا السِّياق، يعيب مالك بن نبي على النُّخبة الـمثقَّفة في الـمجال الاقتصادي وقوفَها موقف اختيار بين ليبرالية آدم سميث ومادِّية كارل ماركس! من دون وقوفٍ وأخذِ عبرةٍ عند أسباب الفشل، أو نصف النِّجاح لخطط التَّنمية التي طُبِّقتْ على أساس الليبرالية أو الـمادية في العالـم الثالث بعد الـحرب العالـمية الثانية. فصناعة التَّاريخ لا تتمُّ بتقليد الآخرين؛ وإنَّما بفتح دروبٍ جديدةٍ لم يطْرقوها، ولا فكَّروا في ولوجها. خامساً: خصَّص مالك بن نبي جزءًا كبيرًا من انتقاداته الـمتعلِّقة بحركة النَّهضة للمنطلق الـخاص بضرورة الرُّجوع إلى السَّلف الصالـح. وبحسبه؛ فإنَّ هذا الـمنطلق يُعلِّمنا علمَ الكلام، لكنه لا يقحمنا في تغيير مصير الـمجموعات الإنسانية. كما أنَّه مُنطلق يُكبِّل حركة النَّهضة من خلال إغراقها في منطق العلم والتَّاريخ، عوضَ أن تنصرفَ جهودُها إلى محاولة اكتساب منطق العمل والفعالية والـحركة. ولذلك بقي مضمون التَّعليم تقليديًّا منذ قرون طويلة؛ على الرُّغم من طبيعة التَّحوُّلات الكُبرى التي طرأتْ على العالـم الـمعاصر وعاينها العالـم الإسلاميُّ من خلال احتكاكه بالغرب. وتبعًا لذلك؛ بقي التَّعليم مجرد مواعظَ تُلْقَى من أعلى الـمنابر على مسامع جمهورٍ لم يخضع في الأساس للبحث أو الدِّراسة التَّداولية والاجتماعية؛ فتشكَّل في الأخير جمهورٌ مستمعٌ يُحْسِنُ الإنصاتَ لا غير، وتحوَّل بذلك مشروع النَّهضة إلى خليطٍ من الـمواقف والأذواق وسط حالةٍ من الضَّياع؛ بعيدًا عن ابتكار الوسائل وتوظيف الأفكار. وفي الأخير، يخلص مالك بن نبي من خلال استعراضه لحركة النَّهضة إلى تأكيد أنَّها عانت تشتُّتًا على مستوى وسائلها، وعلى صعيد الأفكار أيضًا؛ كما على صعيد التَّنفيذ والإنجاز. وهذه الاختلالاتُ الثلاثة أدَّت- في ما أدَّتْ- إلى فشل مشروع النَّهضة بحسب رؤية مالك بن نبي؛ على الرُّغم من وجود النيَّات الـحسَنة والدَّعوات الصَّادقة، لكنَّ غياب الـمنهج السَّليم أفْضَى إلى تفريغ النيَّات الـحسَنة من قيمتها الاجتماعية، في ظلِّ غياب الـمناهج الفعَّالة. والـمحصَّلة النِّهائية لذلك؛ تتمثَّل في فشل التَّقليديين وفشل العلْمانيين على حدٍّ سواء في قيادة الأمَّة إلى نهضةٍ حقيقيةٍ. وكأنَّه يُنادي بضروة وجود تيَّار ثالث يتوسَّط في ما بين التَّقليديين من جهة، والـحداثيين من جهة أخرى، بحيث يتلافى إشكالاتْ الـمنهج عند الفريقين، ويتجنَّب في الـمقابل أخطاءَ الفريقين، ليكون مُعَدًّا ومُسَلَّحًا بالـمناهج العلمية الـجامعة بين علوم الأصالة والـمعاصرة، لقيادة الأمَّة الوسَط. أضف إلى ذلك أيضًا؛ أن العالـم الإسلاميَّ عايَش انقسامًا بين التَّقليد من جهة، والـحداثة من جهة أخرى. وهذا الانقسام، أو الـخليط، لم يصدر عن تخطيطٍ مسبَّقٍ واعٍ أو كان استجابةً لتوجيهٍ علميٍّ؛ بقدر ما كان عبارة عن عملية تلفيقية تجمع بين عناصرَ مختلفة؛ بل ومُتناقضة، من دون أن يكون في ما بينها أدْنى رابط، أو ناظم منْطقي أو طبيعي. ومن ثمَّ؛ فإنَّ مشروع النَّهضة يتعيَّن عليه أن يأخذ بعين الاعتبار اتجاهات الـمجتمع وأهدافه؛ ما دام هذا الـمجتمع هو الذي نُريدُ اسْتنهاضَه وتغييره. كما يُلح مالك بن نبي على ضرورة الـجمع أيضًا بين العلم والضمير، وبين الـخلُق والفن، وبين الطَّبيعة والغيب، وبين الأسباب والغايات.
مشاركة :