أوقف مالك بن نبي (1905- 1973) حياته للإصلاح، إذ عمل في ميدان الفكر، ولم يعمل في مجال اختصاصه مهندساً كهربائياً؛ لأن شعوره بالخطر الاستعماري، جعله يجيب كل من يسأله: بلدي حالياً في حاجة إلى مفكر أكثر منه إلى مهندس. والكتاب الصادر حديثاً عن «دار النفائس» في بيروت تحت عنوان «النهضة والحضارة في فكر مالك بن نبي» للدكتور أسعد السحمراني؛ أستاذ العقائد والأديان في جامعة الإمام الأوزاعي؛ يؤكد أن أفكاره جاءت لا لتضيف في المجتمع الإسلامي معرفة جديدة بالفقه، أو علماً مستخلصاً من تجارب الحضارة الحديثة، بل تنظيم هذه المعارف في مفاهيم تربوية تسير بالإنسان إلى الأمام. فهو يطرح الإسلام كملهم لقيمنا وقادر على استعادة دور الإنسان مبرأ من ثقل الحضارة الإمبراطورية ، ويرى بن نبي أن الإسلام لا يقدم إلى العالم ككتاب، وإنما كواقع اجتماعي يساهم بشخصيته في بناء مصير الإنسانية. ويفسر بن نبي تأخر المسلمين وتناحرهم مع بعضهم بعضاً بضعف الروح القرآنية، فعندما وهنت الدفعة القرآنية توقف العالم الإسلامي كما يتوقف المحرك عندما يستنفد آخر قطرة من الوقود. وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، ألا وهو: الإيمان، ولذلك لم تستطع «النهضة التيمورية» التي ازدهرت في القرن الرابع عشر حول مغاني سمرقند، أو الإمبراطورية العثمانية، كلاهما، أن تمنح العالم الإسلامي «حركة» لم يعد هو في ذاته يملك مصدرها. وبدلاً من أن يبحث المجتمعان الإسلامي والعربي عن الدور المستلب منه، بدآ البحث عن الفرد «البطل» المنقذ الذي يمكنه فعل ما يخالف العادة من الأعمال من أجل الخلاص من الواقع المشؤوم. وبدلاً من أن يتم البحث عن الإنقاذ في الفكر المنظم لطاقات الجماعة المرصوصة الصف، من خلال الالتزام بالقيم المطلقة التي جاء بها الإسلام، والتي تسمو بالإنسان فوق كل عبودية، راح نفر يبحث وفق قيم فاسدة عن بطله المنشود، وإعادة نظم عقد الجماعة واسترداد الإنسان ذاته المستلبة من جانب قيم الآخرين وثقافتهم. فالإسلام دين تحضر وتمدين، وفهمه في شكل خاطئ يؤدي إلى البعد منه، إلى الجاهلية. ويتبنى بن نبي نظرية الأدوار التاريخية التي قال بها العديد من الفلاسفة مستنداً إلى السيرة النبوية. فالمجتمع يمر بثلاثة أطوار تاريخية متعاقبة، اذ يبدأ تاريخه بمرحلة يحدث فيها تقبل الأفكار وإبداعها وتمثلها، تليها مرحلة تبلّغ فيها الأفكار إلى مجتمعات أخرى، ثم تعقب مرحلة يتجمد فيها عالم الأفكار، فيصبح وليست لديه أدنى فاعلية اجتماعية. فالمجتمع الإسلامي في عصر الفارابي كان يخلق أفكاراً، وعلى عهد ابن رشد يبلغها لأوروبا، وبعد ابن خلدون لم يعد قادراً على الخلق، ولا على التبليغ. وأبرز بن نبي الوجه السلبي للإنتاج الفكري الاستشراقي الذي كتب عن المسلمين والعرب ولهم، وأحياناً بالعربية ليمارس دور التخدير، أو اختراع المعارك الوهمية التي تضيع وقت المسلم للدفاع الجدلي عن أمور لا طائل منها، بحيث يبقى الواقع العربي الإسلامي خلواً من أي توجيه أصيل، مفتوح الأبواب لتلقي ما يصدره المستشرقون من أفكار تخدم سيطرتهم السياسية الاستعمارية، وقاموا بنقل القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية في منتصف القرن الثاني عشر للميلاد، وفي المقابل لم تحصل حركة استغراب لدراسة مدققة للأفكار السائدة في عالم الاستعمار، تحصّن الواقع الثقافي، وتجعل العالم العربي والإسلامي فاعلاً في حمل الرسالة الحضارية المنوطة به. ويحلل بن نبي الأزمة الحضارية عند العرب من خلال دراسة دقيقة للواقع فيقول: الأزمة عند العرب والمسلمين ليست أزمة عقيدة أو فكر سياسي فحسب، وليست مشكلة أصالة مفقودة، وإنما مشكلة انتكاسة وسقوط في محطة تاريخية ويستوجب ذلك إعادة الأمر الطبيعي بالانسجام مع صفحات التاريخ المشرقة، وليس بأخذ السند والحجة من واقع الانتكاسات. والعرب والمسلمون ليست أزمتهم الحضارية بسبب عدم امتلاكهم الخامات، أو لفقر في كنوز أرضهم، بل ما عندهم يفوق الحاجة «الإنسان والتراب والوقت» لو أحسنت الاستفادة منه في تطوير البلاد، ولو عادت ثماره لكل أبنائه، وليس لفئة قليلة تعبث به أو للاستعمار يفتح لها باب نهبه، واستثماره. وهذه العناصر الثلاثة لا بد من أن يضمها العامل الأخلاقي، ومن دون هذا العامل يوشك أن تتمخض العملية عن «كومة» لا شكل لها، متقلبة عاجزة عن أن تأخذ اتجاهاً، أو تحتفظ به، أو تكون لها وجهة. ولا يغفل مالك الجانب الجمالي مؤكداً أن ذوق الجمال عامل أساسي في سلامة التوجه الحضاري أو عدمه. وإذا كانت الأخلاق عاملاً مؤثراً في توجيه النمط الحضاري لتأثيرها في عالم الأفكار، وعالم الأشخاص وهما من مرتكزات الحضارة التي تحل في المرتبة الأولى، إلا أن الأمر يختلف بالنسبة الى ذوق الجمال؛ لأن الاتجاه الحضاري ونمط سلوك الإنسان واستخدامه التراب في عملية البناء، هي التي تترك بصماتها على النواحي الشكلية والجمالية في المجتمع. وقد تعرض بن نبي لمشكلات الحضارة بدلاً من مشكلات الإنتاج الحضاري. لقد وجد نفسه، كمثقف جزائري، أمام ترتيب ضروري لرسالته في المجتمع، فلا بد أولاً من بناء الإنسان قبل بناء الآلة حتى لا نضع العربة قبل الحصان فنعجز عن الوصول إلى الهدف.
مشاركة :