الرعيل الأول من «الإخوان المسلمين» الذين هاجروا من مصر إلى المملكة؛ سواء بعد انقلاب الثورة عليهم عام 1954، أو من الشام بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة انتموا إلى المدرسة البنائية نسبة إلى حسن البنا، وهم ينتهجون الدعوة إلى الله لكسب قلوب الناس وعقولهم، وحاكميتهم معلنة في وجه الغرب الليبرالي، كانت أعدادهم قليلة والتزموا بضوابط العيش في المملكة بعد أن أمنوا على نفوسهم وأعراضهم وأموالهم. الأعداد الكبيرة التي وصلت بعد ذلك من الشام ومصر والعراق كانت في غالبها قطبية تؤمن بالقوة في التغيير، وهي تنتمي إلى سيد قطب الذي يكفر الأنظمة الإسلامية الحاكمة. الحرب الباردة، والاستقطابات شديدة الحدة التي قسّمت الدول العربية إلى «تقديمة» عروبية يسارية، «ورجعية» ملكية تطلبت الاستعانة ببعض الكوادر التي يمكن أن تحسب على الإخوان المسلمين للتصدي للدعاية الناصرية، وقد كانت فرصة سانحة لتورطهم في الشأن المحلي. المملكة كانت واضحة منذ البدء عندما رفض الملك عبدالعزيز فتح مكتب للجماعة في المملكة وقال قولته المشهورة «كلنا إخوان، وكلنا مسلمين»، ولكن تبدل الظروف لاحقا ووجود خطابين أحدهما إسلامي تدفع به المملكة والآخر قومي تدفع به مصر أوجد لهم موطئ قدم على الساحتين الدولية والسعودية. اقتضت حكمة المؤسس ومن بعده أبناؤه الملوك تفعيل أدوات غاية في الدهاء حافظوا بها على مسافات متساوية بين المجالات المؤثرة في هندسة المجتمع، وأشرفوا رأسيا عليها، حسب بعض الباحثين الغربيين، ولكنهم لم يشجعوا العلاقات الأفقية بين تلك المجالات، ولذلك برز في المملكة عالم أفذاذ مثل مفتي الديار السعودية محمد بن إبراهيم، واتسع صدرها لمثقفين ذوي توجهات مختلفة من أمثال عبدالله القصيمي، بل يقال إن حي دخنة كان لطلبة العلم الشرعي وحي الملز في الرياض كان للمثقفين. تقييد التماس بين تلك المكونات الفكرية، خفف من حدة الاحتكاك وبالتالي منع الصراعات وأسهم في السلم الداخلي. ولم يكن صاحب القرار يسمح بطغيان دور على آخر، فهو الذي يقدر المصلحة العامة ويتخذ القرارات بناء عليها. ليس صحيحا أن المثقفين وحدهم كانوا في مواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين، وإنما كان أول المعارضين لأفكارهم الشيخ محمد بن إبراهيم الذي رفض تدريسهم مواد العقيدة، ورفض الموافقة على السياسة التعليمية التي كتبها الإخوان المسلمون، ولم يتم إقرارها إلا بعد وفاته، وكأني به في قبره يراقب ما جرى بعده مستذكرا قول الشاعر: أَمَرْتُهُمُ أَمْرِى بمُنعَرَجِ اللِّوَى فلم يَسْتبِينُوا الرُّشدَ إِلا ضُحَى الغَد ما الذي فعله «الإخوان المسلمون» وتلامذتهم وهدد أمن الدولة؟ وفقًا للباحث الفرنسي ستيفن لكواه فإنهم تمكنوا من الجمع بين «الجاهلية والحاكمية» عند سيد قطب، و»الجاهلية والتوحيد» في الدعوة الإصلاحية، فأوجدوا جسرًا للتلاقي قطعوا به العزلة التي أبعدتهم عن تدريس العقيدة في المدارس والجامعات السعودية. ليس هذا فحسب وإنما عملوا على تعبيد السبل لانتقال المعلم وعضو هيئة التدريس والموظف من الفصل والقاعة والمكتب إلى منبر المسجد، وإلى برامج الفتوى في الإعلام. وعملوا على أسلمة الثقافة والعلوم والرياضات والأنشطة، وشكلوا كوادر بينية تعبر من خلالها الأفكار بين مكونات كانت قبل على قطعية؛ فاستخدم الشيخ عبدالرحمن الدوسري للربط بين الإخوان والسلفيين، وهو تزاوج أنجب فيما بعد «الصحوة» التي تحدت الدولة وكان منها ما كان عام 1990 حتى 1994 وتناثرت شظاياها لصناعة التطرف وتغذية الهجمات الإرهابية على المملكة. عمليات التحكم في هندسة مكونات المجتمع السعودي استغرقت أكثر من أربعة عقود لتؤتي ثمارها عام 1990، وما يحصل حاليا في بلادنا لا علاقة له من قريب أو بعيد -كما يروج المرجفون- باستهداف التدين والمتدينين ناهيك عن مساسه بجوهر الإسلام وما ثبت منه وفقا للكتاب والسنة وسلف هذه الأمة. إن الذي يحصل ببساطة هو تفكيك لمخطط كبير استغرق بناؤه عقودًا من الزمن، واستهدف هذه البلاد في قيادتها وأمنها واستقرارها، وأدلج الدين لخدمة أهداف الجماعة السياسية. ولا ريب أن استئصال هذا الورم سيكون مؤلما للمشاعر الطيبة المتأصلة في مواطني بلادنا، ومن الأهمية بمكان فتح حوار عن حجم الضرر الذي كان سيلحقه التنظيم بالمملكة فيما لو تمكن منها
مشاركة :