اهتمام ثقافي بإشكالية التعاطي والإدمان وجهود مخلصة لمواجهة هذه المأساة الإنسانية

  • 8/26/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يتصاعد الاهتمام الثقافي في الغرب بإشكالية تعاطي وادمان المخدرات فيما باتت هذه الإشكالية تشكل مآساة للانسانية وتؤرق كل صاحب ضمير سواء في الغرب أو الشرق ومن ثم تتوالى الإبداعات والجهود المخلصة في دول شتى حول العالم من بينها مصر بحثا عن سبل الانعتاق وتفكيك مخالب الإدمان.وها هي الصحافة الثقافية في الغرب تولي اهتماما واضحا بفيلم جديد من المقرر عرضه للجمهور في الثلاثين من شهر أغسطس الجاري ويتناول إشكالية الإدمان وسبل التغلب على هذا البلاء وهو فيلم يعتمد على كتاب لجيمس فري صدر بعنوان "مليون قطعة صغيرة" ومن اخراج سامانثا تايلور جونسون.وفي هذا الكتاب الأقرب للمذكرات والذي حقق مبيعات عالية يقوم جيمس فري بحفر مثير في ذاكرته الموجوعة بتجربة ادمانه ويستدعي أساليب تعامله ومواجهته مع الإدمان كما يسرد تفاصيل تتعلق بإعادة التأهيل ، وإن كان هذا الكاتب الأمريكي قد اقر بوجود "مساحات خيال في الكتاب" غير أن المخرجة سامانثا تايلور جونسون تبدو متحمسة للغاية لتحويل الكتاب إلى فيلم سينمائي حتى أنها قامت بكتابة سيناريو الفيلم مع زوجها ارون تايلور جونسون الذي يشارك أيضا كممثل في الفيلم.فبغض النظر عن الجدل الذي أثاره هذا الكتاب مابين الواقع والخيال في صفحاته ترى المخرجة البريطانية سامانثا تايلور جونسون التي تقضي اغلب اوقاتها في لوس أنجلوس وأخرجت من قبل الفيلم الشهير "50 ظلا للرمادي" انه يشكل لبنة مهمة في صرح كتابات تتصدى لإشكالية الإدمان وتصف الكتاب بأنه "كلمة حق".وبأسى واضح في كلماتها تقول صانعة الأفلام والمصورة البريطانية سامانثا تايلور جونسون :"فقدت أعزاء من أغلى الناس في قلبي جراء الإدمان ورغم مضي الزمن لم تخف حدة آلام فقد بعض هؤلاء الأصدقاء الأعزاء" ومن ثم فهذا الفيلم الجديد "مليون قطعة صغيرة" يعني لها الكثير على المستوى الشخصي والشعوري.وتشدد هذه الفنانة البريطانية التي ولدت في الرابع من مارس عام 1967 على ضرورة التحلي "بروح مقاتلة في مواجهة بلاء الإدمان والقتال بكل العزم للتغلب على هذه الآفة الفتاكة" فيما تعود لفيلمها الجديد الذي يشكل إضافة لاسهامات "الفن السابع في مواجهة مخاطر الإدمان" لتؤكد على انها تفاعلت وجدانيا مع كتاب "مليون قطعة صغيرة" بما يكفي لتحويل رؤية وكلمات الكاتب جيمس فري لصور تجسد تلك الرؤية بلغة السينما.ومؤخرا خرج المغني والكاتب والشاعر البريطاني جون كوبر كلارك باعترافات صادمة ورسالة تحذير مؤثرة لكل من تسول له نفسه تعاطي المخدرات ولو على سبيل التجربة أو من باب الفضول حيث حمل أثير هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" كلمات هذا الفنان المخضرم للجميع:"لاتقربوا ابدا المخدرات فأنا فعلت ذلك من قبل واعتبرت الأمر في التجربة الأولى مدهشا وإذا بي الآن لا أستطيع أن أقلع عن التعاطي".وهذه الرسالة المؤثرة والصادمة معا من فنان وشاعر كبير يعترف "بأن الهيروين قد استعبده وهيمن على حياته ليقلبها رأسا على عقب" أبرزتها الصحافة البريطانية ومن بينها اعترافه بأنه كان قبل الإدمان "يعمل كمبدع للفن" اما بعد الإدمان في ثمانينيات القرن الماضي فإنه يعمل من أجل أن يجد مايشتري به هذا السم المدمر ويشعر بأنه "يبيع روحه للهيروين الذي استعبده ولايستطيع الفكاك منه".ومأساة هذا الفنان البريطاني الذي ولد في الخامس والعشرين من يناير عام 1949 تعيد للأذهان مآساة فنان امريكي كبير وهو جيل سكوت هيرون الذي لم تتوقف التساؤلات الحزينة فى منابر ودوائر ثقافية أمريكية عن سر استسلامه للكوكايين لينتهى حطاما قبل ان يموت بالفعل يوم السابع والعشرين من مايو عام 2011.وحتى الآن فإن هناك في الولايات المتحدة من يقول إن جيل سكوت هيرون مات مرارا قبل ان يوارى الثرى رغم انه الشاعر الذى ابدع فى عنفوانه كلمات موحية عن "الروح الحرة ووصف بشاعر الثورة وصوت الثقافة السوداء بفضل انجازاته سواء على صعيد الشعر والفن او فى مجال النضال السياسى دفاعا عن حقوق الأمريكيين المنحدرين من أصول أفريقية.وفيما قضى فنان موسيقى الراب جيل سكوت هيرون اغلب سنوات عمره ال62 فى حى هارلم الشهير بنيويورك فان هذا الحى كان علامة على البؤس وعالم المخدرات وشهد معارك شرسة ومريرة بين رجال الشرطة وعصابات منظمة مع انه وهب امريكا كوكبة من المبدعين السود وقدم اعظم عازفى موسيقى الجاز وراقصى "ديسكو الشوارع" وفريق هارلم الفذ فى كرة السلة.إنه الحى الذى عاش فيه الموسيقى الشهير لوى ارمسترونج "اعظم عازف ساكسفون فى القرن العشرين" وصاحب رائعة "أحزان الطرف الشرقى" وفى حى هارلم ايضا تعلم مايكل جاكسون الغناء ليتحول الى ايقونة أمريكية فيما يصف نقاد ثقافيون جيل سكوت هيرون الذى انتمى لليسار الثقافى الأمريكى بأنه احد ابرز اصوات الاحتجاج الثقافى فى سنوات السبعينيات من القرن العشرين وصاحب تأثير لاينكر على المشهد الشعرى للأمريكيين السود.واذا كانت موسيقى الراب فى الأصل بمثابة فن احتجاجى للأمريكيين الأفارقة الساخطين على حرمانهم من فرص افضل فى الحياة والعمل فإن المخدرات لم تساعد ابدا جيل سكوت هيرون على الإبداع بل انها كانت فى الحقيقة "مقبرة الإبداع".ومع استسلامه للكوكايين بدأ منسوبه الإبداعى فى الانخفاض والشح اعتبارا من منتصف ثمانينيات القرن العشرين وفى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين ادين جيل سكوت مرتين بتهمة حيازة كوكايين فيما اعترى الوجل والذعر جمهوره ومحبيه وهم يلاحظون مدى ذبوله واضمحلال ابداعه. ولعل مايثير الأسى اكثر مالاحظه صحفيون من ان هذا المثقف والفنان الكبير كان يتفادى النظر لنفسه فى المرايا بعد ان انهارت حالته الصحية وكأنه يريد أن يهرب من ذاته المحطمة!..وهكذا قضت المخدرات على جيل سكوت هيرون الذى كان يفضل وصف نفسه بالفنان الشامل حيث جمع بين الشعر الطليعى وموسيقى الجاز وتقاليد فن "البلو" وهى اغانى الشجن الراقصة للأمريكيين السود.وظاهرة تعاطي وادمان المخدرات في الولايات المتحدة تفرض نفسها بقوة على اهتمامات المثقفين الأمريكيين فيما تتناول عدة كتب تتوالى في موجات حول هذه الإشكالية وبعضها يصدر بعناوين دالة مثل :"جرعة أمريكية زائدة" لكريس مكجريل و"مخدر مرضي" لبيث ماكي و"قاتل الألم:امبراطورية الخداع" لباري ميير و"حقنة مخدرات أمريكية:داخل ازمة الإدمان وكيف نضع لها حدا" لريان هامبتون وكلير فوستر.ولاريب ان هذه الموجات من الكتب الأمريكية حول إشكالية تعاطي وادمان المخدرات تشكل جهدا ثقافيا وازنا لمواجهة خطر يهدد المجتمع الأمريكي بعد ان كشفت إحصاءات "للمعهد القومي للتعاطي غير المشروع للمواد المخدرة" أن 72 الف امريكي قضوا هلاكا في عام 2017 وحده جراء تعاطي جرعات زائدة من تلك المواد المخدرة فيما حذر هذا الصرح العلمي الطبي الأمريكي من أن الظاهرة تتصاعد.وتتفق هذه الكتب الجديدة في التركيز على استخدام المتعاطين لمواد مخدرة خصصت أصلا لأغراض طبية ولتخفيف حدة الآلام المبرحة للمرضى ولايجوز استخدامها إلا في ظل رقابة صارمة من الأطباء وبناء على تعليماتهم.كما تتفق في التحذير من خطورة نزعة الجشع والنهم الرأسمالي المفرط للربح لدى البعض عندما تقترن بالتغاضي عن تعاطي أشخاص غير مصرح لهم بمثل هذه المواد التخليقية والمخدرة من اجل الكسب بأي سبيل حتى لو كان هذا الكسب غير مشروع بصورة صارخة ومنافية للقيم الإنسانية الخيرة ومن شأنه ان يفضي "لمجتمع مخدر".ومن المثير للأسى سواء في الولايات المتحدة او غيرها ان تنتشر معلومات حول "أماكن وبؤر الحقن بالمخدرات وأكثرها أمانا وابتعادا عن قبضة العدالة" كما توضح هذه الكتب الجديدة التي تحوي أيضا مقابلات ميدانية مع بعض المتعاطين والمدمنين وتتقصى مدى استعدادهم لهجر هذا الداء اللعين وصولا "لاستهداف مصادر اليأس التي تدفع البعض للادمان" ولطرح افضل الخيارات برؤية شاملة لعلاج الظاهرة التي امست تؤرق المجتمع الأمريكي.وإذا كانت كتابات عدة قد تناولت مآساة الممثلة الفرنسية الجميلة ماريا شنايدر التي قضت في الثالث من فبراير عام 2011 "بعد أن دمرها الإدمان على المخدرات" رغم انها كانت فنانة موهوبة كما تبدى في فيلمها مع الممثل مارلون براندو "التانجو الأخير في باريس" فالممثل المسرحى والتلفزيونى البريطاني انتونى شير قال في اعتراف شجاع :"اسوأ اوقاتى كانت ادمانى للكوكايين وقد انتهت فى عام 1996 وانظر لها الآن بندم".وفى كتاب صدر بالانجليزية بعنوان:"العم شارلى"-يقدم الفنان مارك اسنين تجربته الأليمة مع الادمان وخاصة ادمان الكحوليات وهو ايضا " كتاب شجاع لرجل شجاع" يعترف بخبايا محنته ولحظات الضعف التى قادته للإدمان أو تدمير الذات.والكتاب تتبدى في كلماته الحميمة أمينة صادقة وراغبة فى مساعدة أولئك الذين سقطوا فى هاوية الادمان فيما اقترن بكثير من الصور وكثير من الصراحة ليقول مارك اسنين الذي يعيش فى بروكلين بنيويورك انه فقد ثقته بنفسه واحترامه لذاته اثناء محنة الاستسلام للادمان وباتت حياته فى ظل هذا الاستسلام سلسلة عبثية من الخيارات السيئة.وفي أرض الكنانة وعلى قلب رجل واحد ، يقف المصريون لدرء مخاطر وشرور المخدرات وحماية الوطن والأبناء والمستقبل وتشهد مصر حملة مجتمعية شاملة تشارك فيها عدة وزارات لمكافحة المخدرات والتوعية بمخاطر تعاطيها جنبا الى جنب مع "تجفيف منابع التعاطي".وينشط " صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي" التابع لوزارة التضامن الاجتماعي في تنظيم فعاليات متعددة من بينها فعاليات ثقافية ورياضية فيما من المقرر أن يختتم اليوم "الإثنين" الدوري الرياضي للمتعافين من تعاطي المخدرات وتسليم الفريق الفائز كأس البطولة بحضور بعض نجوم الرياضة والفن.وكان مدير" صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي" الدكتور عمرو عثمان قد لفت إلى أن عدد المقبلين على علاج الإدمان تزايد أربعة اضعاف بعد الإعلان الذي قدمه النجم الكروي العالمي محمد صلاح للعلاج من الإدمان معتبرا في مقابلة تلفزيونية ان الحملة التي شارك فيها هذا النجم المصري تعد من الحملات النموذجية والملهمة حتى لدول أخرى في مجال مكافحة الإدمان.واختتم معسكر تدريبي للمتطوعين للوقاية من الإدمان مؤخرا بالإسكندرية في سياق الاحتفالات باليوم العالمي للشباب بعد ان استمر أربعة أيام بعنوان "قوتنا في شبابنا" فيما قال مدير الصندوق الدكتور عمرو عثمان في تصريحات صحفية ان شباب المتطوعين قاموا مابين شهر يوليو عام 2018 وشهر يوليو عام 2019 "برفع وعي مليون ونصف المليون طالب وطالبة بأضرار تعاطي المخدرات". ويتفق المعلقون في الصحف ووسائل الاعلام المصرية على ان شرور المخدرات لا تقتصر على متعاطيها وانما قد تتسبب في ازهاق أرواح أبرياء جراء حالة التبلد وغياب الادراك للمتعاطين الذين يعملون في مرافق وخدمات حيوية تتعامل معها الجماهير في أوجه الحياة اليومية ناهيك عما تنطوي عليه ظاهرة تعاطي المخدرات من اضرار جسيمة بالتماسك الأسري والسلام الاجتماعي واهدار الطاقات وخاصة بين الشباب.ويلاحظ مثقف مصري كبير هو الدكتور مصطفى الفقي مدير مكتبة الإسكندرية أن المخدرات تقف خلف بعض الجرائم ذات النوعية البشعة والغريبة على اخلاق وقيم المصريين فيما يصف شيوع المخدرات في العالم "بذلك الداء اللعين الذي استشرى في عالمنا المعاصر تحت مسميات جديدة ومواد مخدرة طبية أو نباتية".ويضيف الدكتور مصطفى الفقي أن هذا الداء اللعين يمزق المشاعر ويعبث بالعقل ويطيح بالضمير ويحول الانسان الى كتلة بلا وعي "ولذلك فان محاربة المخدرات بكل أنواعها واجب اصيل على الدولة والمجتمع المدني وكل من يحمل قدرا من المعرفة أو تجري في عروقه دماء مصرية تسري بالوطنية الصادقة والخوف على المستقبل والحرص على الأجيال القادمة".وكان الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة قد نوه بالمواجهة الضارية التي تخوضها وزارة الداخلية ضد المخدرات فضلا عن جهود مراكز علاج الإدمان لافتا لضرورة استعادة دور الأسرة في الانضباط والتربية".ورأى عالم الطب النفسي الكبير الدكتور احمد عكاشة وهو رئيس الجمعية المصرية للطب النفسى أن "علاج الادمان يحتاج طبقا للقانون الى اشراف طبى من طبيب نفسى متخصص ومعه اخصائى نفسى واخصائى اجتماعى وتمريض نفسى" فيما شدد على أن "منظومة العلاج النفسى فى مصر محترمة جدا وتخضع لقوانين ورقابة هائلة".ويبقى الأمل في نجاح الإنسان في العصر الرقمي في مواجهة هذه الإشكالية العالمية إنقاذ كل من انبطح مستسلما للتعاطي إوتفكيك مخالب اللعنة التي تحولت لمآساة تهدد االحاضر والمستقبل.. وتبقى الإرادة الإنسانية الحرة اقوى من نداءات الشر لشفا الهاوية وجحيم الإدمان وعنكبوت الضياع!.

مشاركة :