حرق الكتب وتحطيم الآثار | لمياء باعشن

  • 4/23/2015
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

تتعرض المعرفة في فترات تاريخية مختلفة للتنكيل ولمحاولات المحو والإزالة جراء الخوف من تأثيرها سلبًا وإيجابًا، لذلك فإن حاويات هذه المعرفة تصبح العدو المباشر الذي يجب محاربته والقضاء عليه، والحاويات هي التسجيلات التي توثق المعرفة وتحفظها، فالعقل البشري ينقل معارفه من جيل إلى جيل عن طريق التوثيق بالطرق المتاحة له في كل فترة تاريخية، فإن غابت الكاميرات فقد حضرت الحجارة وجدران الكهوف وصخور الجبال للنحت والزخرفة، وإن غابت أجهزة تسجيل الصوت فقد حضرت الأوراق والريش والأحبار للكتابة والتدوين والرسم. كلما نمت المجتمعات وزاد تحضرها ورقيّها، ارتفع وعيها الثقافي واشتدت درجة احترامها وتقديرها لحاويات المعرفة التي تركها السابقون للاحقين للعبرة والاستفادة والتواصل والتقدم. وعلى العكس من ذلك، كلما دخلت المجتمعات في أنفاق الظلام وتراجعت إلى كهوف الجهل، جفت عقولها وتضاعفت مخاوفها وضعفت ثقتها بذاتها فازداد بغضها وتحقيرها لحاويات المعرفة. في عصور الظلام تنهال معاول الهدم على الآثار المنحوتة والمكتوبة لتمحوها من الوجود فتفقد الأمة كل اتصال لها بالسابقين وتعود إلى نقطة الصفر لتضيع في متاهة الزمن. في أيامنا الصعبة هذه نرى بدعًا من فئات متشددة يظهر منها سلوكيات تدل على التراجع الحضاري والجهل بقيمة المعرفة والخوف المرضي من آثار الماضي، بينما هي في نفس الوقت تقدس الماضي وترفض التقدم وكل ما تخططه لمستقبلها هو العودة به إلى الوراء، يرى أفراد هذه الفئات أنهم لا يكونون مسلمين حقًا إلا إذا تمثلوا العيش في مكة والمدينة في صدر الإسلام، فهم يسترجعون تلك الحقبة الزمنية بكل تفاصيلها، بما فيها تكسير الأصنام التي كانت تعبد داخل الحرم، ولكنهم في تكسيرهم للحجارة لا يفرقون بين أصنام ولا تماثيل ولا جفان ولا قدور، وكما ارتكبت طالبان جريمتها الثقافية بتحطيم تمثال بوذا الشهير، فإن داعش تعيد بشاعة تلك الجريمة وهي تعيث فسادًا في العراق مدمرة آثار الآشوريين والأكاديين. وفي نفس الوقت، نشهد في الأوساط الثقافية موجة من الاعتراض على بعض الكتب التراثية التي تحمل أفكارًا يرون أنها السبب في وجود داعش وأمثالها، لذلك فقد بدأوا يطالبون بنسف تلك الكتب وحرقها، وقد شهدنا هذا الحرق فعلًا، وهذا الفعل لا يختلف عن التحطيم في جنايته على حاويات المعرفة سواء اتفقنا مع ما جاءت بها أو اختلفنا، فالحرق والإزالة والتحطيم كلها آليات ضعف وجهالة وحمق. هذه الوسائل البائسة في التخلص من كل ما يزعج أو يخيف أو يختلف يلجأ إليها المتطرف ومن يدعي عدم التطرف بشكل متساوٍ، لا فرق بينهما، فكلاهما عاجز عن اختراق فكر الآخر والوصول إلى قناعاته لزحزحتها وتغييرها، وكلاهما لا يدرك أهمية وثائق الماضي المنحوتة والمدونة ولا يعرف قيمتها في تحرك مسيرة الحضارة البشرية، المأساة الكبرى تكمن في عدم الوعي بحقيقة أن المكتوب والمنحوت لا يمثل جوهر المشكلة، فالمشكلة لا تكمن في الحاوية ولا في المحتوى، ولكن في طرق تناولهما، أي في قراءتهما بشكل محدود وضيق وموجَّه، تلك القراءة التي تدخل إلى الكتب محملة بالرغبة في البحث في طياتها عما يساند موقف أو يدعم تطرف دون أي اعتبار معرفي آخر، قراءة لا تتمعن ولا تتأمل ولا تروم كشفًا ولا دهشة، فهدفها الوحيد هو اصطياد الأدلة الداعمة لقناعات متصلبة.

مشاركة :