تدريجيا ينتقل الحديث عن أزمة اقتصادية جديدة بين المختصين الاقتصاديين من دائرة التكهن والتوقع إلى نطاق التعيُن والتحقق، بعد أن اهتز عديد من الأسواق العالمية؛ وبدرجات متفاوتة، منذ مطلع الشهر الجاري، فاتشحت المؤشرات في أقوى الاقتصادات العالمية باللون الأحمر؛ مسجلة بذلك معدلات سلبية، وعادت مفاهيم الركود والتراجع والتباطؤ لتتداول على ألسنة المحللين، بعد تصاعد فتيل التوتر التجاري بين واشنطن وبكين، وانكماش الوضع في منطقة اليورو، وصراع هونج كونج، وأزمة "بريكست". توالت الهزات الاقتصادية تباعا، مشكلة بذلك بوادر أزمة جديدة، كانت أقواها يوم الأربعاء 14 أب (أغسطس)، حيث سجلت بورصة وول ستريت أكبر انخفاض لها منذ عام، حيث فقدت 3 في المائة في جلسة تداول واحدة، وقبل ذلك بعشرة أيام شهدت السوق المالية الأمريكية انخفاضا مماثلا تقريبا، قبل أن تعود إلى التعافي قليلا. فرضت هذه التطورات على المؤسسات المالية العالمية مراجعة توقعاتها بشأن النمو العالمي، فالبنك الدولي على سبيل المثال خفضها إلى 2.6 في المائة بدلا من 2.9 في المائة التي حددها بداية العام الجاري. وعزا ديفيد مالباس المدير الجديد للبنك ذلك إلى انخفاض في ثقة الأعمال، وتسجيل تباطؤ إضافي في التجارة العالمية، وتراجع الاستثمار في البلدان الناشئة والنامية، وتوقع المسؤول ذاته أن تنمو التجارة العالمية بأضعف وتيرة لها منذ الأزمة المالية قبل عقد من الزمن. صندوق النقد الدولي بدوره عدل من توقعاته بشأن نمو الاقتصاد الصيني؛ ثاني أكبر اقتصاد في العالم، مخفضا النسبة إلى حدود 6.2 في المائة للعام الجاري بعد أن كان توقعه 6.3 في المائة، وإلى حدود 6 في المائة فقط بدل 6.1 في المائة بالنسبة إلى السنة المقبلة، وهي أبطأ وتيرة للتنين الصيني على مدار عقدين. مخاوف تعززها البيانات الرسمية القادمة هنا وهناك، فالاقتصاد الألماني على سبيل المثال سجل انكماشا بنسبة 0.1 في المائة خلال الربع الثاني من العام الجاري، فيما كشفت البيانات في المملكة المتحدة عن انكماش اقتصاد البلاد للمرة الأولى منذ عام 2012، بعد تراجع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 0.2 في المائة، انزلقت البرازيل، وفق البيانات ذاتها، إلى فخ الركود في الربع الثاني من هذا العام، كما ظهرت مشكلات في اقتصاد هونج وسنغافورة؛ وهما مركزان تجاريان وماليان عالميان. يفسر متخصصون التذبذب والقلق في الأسواق العالمية بكونه نتيجة حالة المد والجزر التي تشهدها الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ما جعل قطاعا عريضا من المستثمرين يبحث عن أصول آمنة، بعدما شكك في قدرة الاقتصاد العالمي على تحمل تبعات إجراءات حمائية لأكبر اقتصادين عالميين. بينما يرى آخرون أن ما يجري يتجاوز حدود الحرب التجارية، نحو مساءلة النظام الاقتصادي الحالي، فحتى اليوم لم تستطع كل التفسيرات تقديم أجوبة صريحة ومقنعة عن الأسباب التي كانت وراء أزمة 2008، عزز ذلك حالة ساد فيها عدم الاستقرار والتشوه الاقتصادي، ما جعل أي حدث مهما كان صغيرا قاب قوسين أو أدنى من اشتعال أزمة اقتصادية جديدة في كل وقت. بعيدا الفريقين يجاوز تيار ثالث مسألة البحث في التفسيرات نحو اعتبار الأرقام بمنزلة ناقوس للخطر ودعوة للاستيقاظ والحذر، فشبح الركود مجرد حمى تراوح بين الارتفاع والانخفاض، ولم يتحول بعد إلى مرض مزمن ينهش الاقتصاد العالمي، ما يجعل فرص تجنبه قائمة، لكن يلزم اتخاذ ما يكفي من التدابير والتعاون بين المعنيين كافة كل من موقعه، على غرار ما قام به بعض البنوك المركزية في آسيا، من خفض لأسعار الفائدة "الهند، تايلاند، والفلبين...". يحاول هؤلاء المتفائلون رسم صورة إيجابية عن الوضع الاقتصادي العالمي، إلا أنه يرفض أن يبدو كذلك، فالأرقام تفيد أن الديون غير المالية مثلا تضخمت برقم قياسي، حيث بلغت 182 تريليون دولار عام 2017، وهو ما يشكل 224 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أي بزيادة نحو 60 في المائة عما كانت عليه عام 2007، فيما يواصل الرئيس الأمريكي تحطيم آليات التجارة الحرة، بتوزيع العقوبات الاقتصادية على الدول يمينا ويسارا، فرض حصار على تمويل البنوك الأمريكية للدول، وهو ما يزيد من مخاطر خدمة الديون. بذلك يكون قوس العولمة الذي فتح منذ 30 عاما مع سقوط جدار برلين على وشك الإغلاق، جراء الصراع المستمر والتوتر المحتدم بين النسر الأمريكي والتنين الصيني، الذي يتوقع أن تكون القارة العجوز إحدى ضحاياه المباشرين؛ فهي في هذه الحالة أقرب ما تكون إلى العشب، في المثل الإفريقي القائل "عندما تتصارع الفيلة يدفع العشب الثمن"، فمن المحتمل أن تكون واحدة من ساحات القتال المفضلة بين القوتين العظميين في المستقبل. قبل أيام، كتب مختص اقتصادي أمريكي في صحيفة "فاينانشيال تايمز" ملخصا المزاج السائد قائلا "في الوقت الراهن، لا يزال بعض المستثمرين يرقصون على أرضية قاعة الرقص، لأن الأوركسترا ما زالت تعزف، لكنهم في الحقيقة يقفون بالقرب من مخرج الطوارئ، في حال توقف الموسيقى فجأة". قد تتوقف الموسيقى فجأة، متى؟ كيف؟ لماذا؟ يقدم المحللون والاقتصاديون فرضيات، لكلٍ تفسيراته أو هواجسه اللحظية: الصين، "بريكست"، دونالد ترمب، الدين الخاص... لكنهم جميعا يبسطون في نهاية المطاف الملاحظة نفسها: النظام الحالي يلفظ آخر أنفاسه.
مشاركة :