متسلقو النخيل بمصر يبحثون عن الرزق بين السماء والأرض

  • 8/29/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تحول تسلق أشجار النخيل في مصر من نشاط مكروه لا يقبل عليه إلا الفقراء، إلى مهنة تحظى بالاحترام بعد تنامي التصدير للخارج واعتبار العاملين بها عنصرا رئيسيا في تحديد جودة الإنتاج وسعره، واستقدام خبراء لعقد دورات هدفها رفع مستوى تعاملهم مع التمور. لا يستطيع غالبية أصحاب أشجار النخيل، البالغ عددها قرابة 15 مليونا، صعود جذوعها الشاهقة التي تصل إلى 20 مترا وتمتلئ بالسعف المدبب، فيعتمدون على المتسلقين الذين يطلق عليهم محليا مسمى “الطالعين”، في العناية بأشجارهم طوال العام حتى باتوا كلمة السر بجميع مراحل الإنتاج. وينتهج البعض طرقا تقليدية تعتمد على حزام جلدي مربوط بحبال قوية على الأشجار، ومعادلة أوزانهم بالاعتماد عليها مع قوة أرجلهم العضلية، حتى يمكنهم استخدام أيديهم في عمليات التنظيف والتلقيح والحصاد التي يستخدمون خلالها أدوات حادة مثل “البلطة الثقيلة والمناجل المدببة” والأعمدة الحديدية الغليظة، ولا يسلمون من الإصابات جراء استخدامها. تنظم منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) برنامجا للنخّالين المصريين، يستمر طوال موسم الحصاد، الذي يبدأ من منتصف أغسطس الحالي حتى نهاية ديسمبر المقبل، ويركز على الطرق الصحيحة لجمع الثمار وخدمة رؤوس النخل، وأساليب الإكثار وإزالة الفسائل وطرق العناية والتسميد والري الحديث، ونظم التقليم والتلقيح والخف والتقويس والتكييس. تتضمن عملية “التقليم” قطع السعف الجاف والمصاب بالحشرات وإزالة الأشواك لمنع تجريح الثمار والسماح لأشعة الشمس بالوصول إليها والإسراع في نضجها، على أن يكون القطع من أسفل إلى أعلى حتى لا تتجمع مياه الأمطار داخل النخلة، وبعد الانتهاء منها يتم رشها بالمبيدات الحشرية للوقاية من الحشرات. بعد “التقليم”‘ تأتي مرحلة “التقويس” التي تهدف إلى تسهيل جني المحصول ومنع تشابك الشماريخ التي تحمل الثمار، تليها مرحلة “التلقيح” وتعتبر أعقد مراحل الإنتاج، فحبوب اللقاح يجب أن تكون متوافقة مع الأنثى، وتراعي الفترة الزمنية المناسبة لاستقبالها من قبل الأزهار حتى تتم عملية الإخصاب بنجاح. عناية مستمرة تستأثر مصر بنحو 20 بالمئة من الإنتاج العالمي من التمور، لكن الكثير من إنتاجها يتعرض للتلف بسبب ممارسات خاطئة في الحصاد الذي يعتمد على ربط عرجون الثمار بحبل ليسقط على الأرض أو فوق قطع من القماش، ما يسبب تضررها أو التصاقها بالأتربة، بحكم انتماء غالبية التمور المحلية إلى الأنواع اللينة. يقول سعد محمد، الذي يتسلق النخيل منذ ربع قرن، إنه يعتبر نفسه المالك الفعلي للشجرة فاهتمامه بها مستمر منذ زراعتها وحتى وصولها إلى النضوج بعد قرابة خمسة أعوام، عبر تهذيب سعفها وتلقحيها ببذور اللقاح ومتابعة نمو التمور، وحمايتها من الطيور بتغليقها بشباك من البلاستيك. بدأ صاعدو النخيل جني بعض المكاسب من الاهتمام الحكومي بالتمور والتخطيط لإنشاء منطقة لوجستية متخصصة في صناعتها، برفع أجورهم ليصبح إجمالي ما يتقاضاه عن النخلة الواحدة 100 جنيه سنويا ” نحو 6 دولارات”. تنضج غالبية أنواع البلح في مصر خلال أغسطس، لكن بعضها يتطلب وقتا أطول، فحصاد “الزغلول” و”السماني” يكون في سبتمبر، والحلاوي و”الكبي” في أكتوبر، و”بنت عيشة” و”العريبي” في نوفمبر، و”أم الفروخ” قبل نهاية ديسمبر. ويؤكد سعد لـ”العرب” أنه يخشى من انتشار الرافعات “الميكانيكية” التي تجعل صعود الأشجار أمرا سهلا على ملاّكها ودخول أصناف جديدة قصيرة الطول لا تتجاوز المترين في مرحلة النضج ويمكن تنظيفها وحصدها بسهولة، فالخطورة هي الضامن لبقاء مهنته. أنتجت الهيئة العربية للتصنيع في مصر نموذجا لرافعة هيدروليكية تعمل بجهاز تحكم عن بعد لاستخدامها في العناية بالنخيل، وتم الإعلان في فبراير الماضي عن تصنيع أربع أخرى لتوفيرها بالجمعيات الزراعية في المناطق المنتجة، على أن تتولى تأجيرها لأصحاب مزارع النخيل، لكن لم يتم توفيرها حتى الآن. يشير محمد حسن، موظف بشركة حكومية من الوادي الجديد في غرب مصر لـ”العرب” إلى أن الكثير من الشباب يعتمدون على تسلق الأشجار كمهنة مكملة لعملهم الأصلي لمساعدتهم على تحسين أوضاعهم الاقتصادية، ويقبلون عليها بحكم تعاملهم مع النخيل منذ نعومة أظافرهم فهي المحصول الرسمي لغالبية محافظات الصعيد. تنشر الخطط الحكومية الرامية إلى زيادة أعداد النخيل في الوادي الجديد من 2.2 مليون نخلة إلى 5 ملايين خلال خمس سنوات، التفاؤل بين العاملين في زراعة النخيل، لأنها تتضمن التوسع في صناعة التعبئة التي تعني توفير المزيد من فرص تحسين دخولهم. يعتز المتسلقون بمهنتهم، رغم توصيفها حتى وقت قريب كمهنة للفقراء، فأصولها تعود إلى عصر الفراعنة الذين اعتبروا النخيل رمزا للحياة المتجددة، واستخدموا سعفه في احتفالات رأس السنة الجديدة في صناعة ضفائر للزينة لتعليقها على أبواب المنازل ووضعها في المقابر، كما وزعوا التمر الجاف كصدقات على أرواح موتاهم. يتداول متسلقو النخيل أعرافا بينهم فلا يجوز صعودها بالحذاء احتراما لقدسيتها وبركتها، ولا يقتلون ثعبانا أبدا على الأشجار ويسمحون له بالرحيل أو يسقطونه بأدواتهم المعدنية دون إيذاء، انسجاما مع أساطير قديمة تعتبر أن للأفاعي دورا في حماية أرواح البشر في العالم الآخر. يضيف حسن، الذي يزاول صعود النخيل منذ عشرين عاما، أن أهمية المتسلقين تكمن في خطورة مهنتهم وتعرض البعض لخطر السقوط أو الصعق بالكهرباء من الأشجار القريبة من أعمدة الإنارة، ما يجعل ملاك المزارع يخشون خدمتها بأنفسهم ويفضلون استئجار أشخاص لديهم إلمام بمراحل الإنتاج وقادرين على التمييز بين أنواعها ومواعيد حصادها المتباينة. تتطلب العناية بالنخيل التعامل بحساسية شديدة مع منطقة “الجمار”، التي تتوسط رأس النخلة وتنبت من خلالها الثمار، حتى لا تتضرر أثناء التعامل بالأدوات الحادة مع السعف، فأي إصابة تعني موت الشجرة وضياع مشروع إنتاجها بالكامل. عادات ضارة بات المتسلقون يتلقون طلبات غريبة أخيرا، لحصد “طلع” ذكور النخيل (حبوب اللقاح) مع رواج معتقدات محلية، مثل أنها تزيد معدّل الخصوبة، وتنظم الدورة الشهريّة، وترفع كفاءة القدرات الجنسيّة والرغبة لدى الزوجين، وتؤخر ظهور علامات التقادم في السن وتساعد على حفظ النظر ومنع سقوط الأسنان. تجاهد الحكومة في إلغاء بعض العادات الاجتماعية المتوارثة التي تهدد أشجار النخيل، من بينها يوم “شماتة” (سابع أيام العرس) في واحة سيوة بالصحراء الغربية، فالعريس يقدم لحماته يومها كمية من جمار النخيل يصل عددها غالبا إلى عشرين، ما يعني موت العدد ذاته من الأشجار. وضعت وزارة الزراعة بالتعاون مع “الفاو” أخيرا، خارطة لأصناف النخيل والتمور “أطلس” لتحديد الأنواع الأصيلة والمستوطنة والأنواع الشائعة والنادرة، وشرح مواصفات كل شجرة والبيئة الملائمة لها، وما تحتويه من قيمة غذائية، لمساعدة النخالين على العناية والتسويق الخارجي للأصناف مرتفعة القيمة. وتوفر دولة الإمارات العربية المتحدة دعما ماليا أيضا عبر جائزة خليفة الدولية للابتكار الزراعي التي تدعم تطوير التقنيات المستخدمة في مزارع النخيل، والزراعة العضوية، ومكافآت لأفضل منتج ومصنع وبيت لتعبئة التمور والمنتجات المعتمدة على مكونات الأشجار. تدخل مخلفات أشجار النخيل في العديد من الصناعات التراثية والتقليدية، بينها تصنيع الأواني والسلال من السعف، وأقفاص الفاكهة والكراسي من الجريد، والحبال وأغطية الأوعية الفخارية بواسطة الليف، وحتى بعد موتها يتم شق جذعها إلى نصفين وتحويلها إلى جسور للعبور فوق الترع وقنوات المياه. يوضح جمال عبدربه، الأستاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة، أن مصر والإمارات تتعاونان في تطوير زراعة وصناعة التمور بإنشاء مصنعين للتصنيع والتعبئة يضم كل منهما 6 خطوط إنتاج لمنتجات عسل التمر “دبس” والعجوة والمربى لتعظيم القيمة المضافة للتمور، وتحويل بعض الأصناف الرطبة إلى نصف جافة باعتبارها الأكثر طلبا عالميا. تشارك جائزة خليفة الدولية للابتكار الزراعي في تنظيم مهرجانات دولية للتمور في المحافظات المصرية، ودعوة شركات وخبراء أجانب لحضورها وتقديم استشارات فنية تساهم في تسويق المنتج المحلي، ومن بينها المهرجان الخامس الذي تستضيفه محافظة الوادي الجديد نوفمبر المقبل. مساعدات سخية تتولى الإمارات أيضا المساعدة السخية في تطوير مجمع تمور الوادي الجديد وإنشاء مخازن مبردة للتمور بالواحات البحرية بمحافظة الجيزة، جنوب غرب القاهرة، وتمويل عدد من المشروعات التنموية لتطوير قطاع النخيل بقيمة 2.2 مليون دولار سيتم تنفيذها في مصر. يقول عبدربه لـ”العرب” إن استراتيجية الوزارة تتضمن أيضا إنشاء مزارع حديثة للنخيل تعتمد على ميكنة عمليات خدمة رأس النخلة ورفع الكفاءة الإنتاجية للمحاصيل ورفع قيمتها المضافة عبر التعبئة والتصنيع بدلا من التصدير الخام، وزراعة الأصناف المطلوبة للسوق العالمية كـ”المجدول” الذي يباع الطن الواحد منه بنحو 5 آلاف دولار، مقارنة بألف دولار للأصناف المحلية. منذ أعوام قليلة، لم تكن مصر تصدر سوى صنفي “السيوي” نصف الجاف، و”العامري” قبل أن تضيف إليهما ثمانية أصناف خليجية جديدة مثل البرحي الأصفر، والعنبرة، والصقعي، وبدء تصدير البلح الطازج “الزغلول الأحمر” إلى السوق الصينية. تمثل الأصناف الجديدة التي استقدمتها القاهرة قبلة حياة للمزارعين فالكيلو غرام الواحد منها يعادل سعر خمسة من الأنواع المصرية، خاصة صنف “البرجي” ذي الأصول السعودية الذي يدر الفدان الواحد منه نحو 147 ألف دولار. بعد الحصاد يعاون صاعدو النخل ملاك المحصول في تجفيفه ونشره تحت أشعة الشمس وتقليبه باستمرار لمدة عشرة أيام وتنظيفه وتنقيته من الشوائب وإعادة فرزه وتصنيفه حسب النوع والحجم، وبعد ذلك يتم رفع البلح أو تخزينه على طاولات مرتفعة عن الأرض إلى حين تورديه للتجار. كما يقدمون خدماتهم في حفظ التمور عبر التبخير بتغطيتها بغطاء بلاستيكي وغلق جوانبه بردمه بالتراب أو الاستعانة بأقراص كيميائية يتم حرقها قبل تغطية البلح بأكياس بلاستيكية ويمنع الهواء الناجم عنها اقتراب الحشرات والقوارض. يحاول صاعدو النخيل الاستفادة منها في جميع مراحل حياتها، فمهما كانت أدواتهم قاسية عليها تظل كريمة بعطائها عليهم، حتى إن بعضم يرفض تسميتها باسمها الحقيقي مطلقا عليها “شجرة الحياة”.

مشاركة :