احتضن معلم "الكراكة" التاريخي بمدينة حلق الوادي، في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة، مؤخرا، عرضا لمسرحية “دون كيشوت تونس” أو “حب تحت المراقبة” للمخرج معز العاشوري، وذلك ضمن فعاليات الدورة الـ45 لمهرجان البحر المتوسط بحلق الوادي. تروي أحداث المسرحية في مدّة ناهزت ساعة ونصف الساعة واقعة جدّت بين سنتي 2004 و2005 تتمثّل في تمرّن مجموعة من الممثلين على عمل مسرحي، فيتعرّض الثنائي “عزيز” مخرج المسرحية وحبيبته “عزة” الممثلة، إلى مراقبة أمنية سرّية من قبل أمني يدعى “دالي مروكي”، تنتهي بسجن المخرج بتهمة التحريض على الإرهاب. في جزء آخر من المسرحية، وبعد الثورة التونسية تلتقي الشخصيات مجدّدا، في استوديو لإعادة رواية ما حدث، لكن هذه المرة بعد الثورة حيث تتغيّر تركيبة العلاقات بين الشخصيات، وفي الوقت الذي يبدو فيه الجميع مقبلا على طيّ الصفحة والاعتراف بالأخطاء، يجد فريق استوديو التصوير نفسه تحت ضغوطات تجعله يحاول التأثير في مواقف الشخصيات: إنها لعبة جديدة بقواعد مختلفة تعيد إنتاج العلاقات الصدامية بين الشخصيات، وهو وضع يجعل الكشف عن الحقيقة، أو على الأقل الاستفادة منها في الحاضر، مستحيلا. أدّى شخصيات العمل الممثلون هندة الغابري وبشير الغرياني ورامي الشارني ومحمد سفينة وخليل بن مصطفى ورضوان شلباوي ومعز العاشوري وزينب محمد. راوحت مسرحية “دون كيشوت تونس”، في خصائصها الفنية، بين تقنيات الفيديو وفن السيرك وكذلك لعب الممثل. وهذه التقنيات وظّفها المخرج في المراوحة الزمنية للأحداث بين الماضي والحاضر: فتقنية البث المباشر للفيديو تدلّ على زمن الحاضر والغاية منها هي توثيق الماضي. ووردت في شكل خطابات غاب عنها اللعب الدرامي على الركح. تستعيد الشخصيات الرئيسية في العمل وقائع التمارين على مسرحية «دون كيشوت تونس”، فكثّف المخرج من اللعب الدرامي على الركح، ونوّع من لعب الممثّل، فراوح بين لعب السيرك والكوريغرافيا، كما راوح أيضا بين السخرية والتراجيديا في خطابه، ليعبّر عن مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. وارتكز البناء الدرامي للأحداث على مستويين اثنين هما “التوثيق” و“المسرحية داخل المسرحية”. والمستوى الوثائقي يتجلى في اعتماد تقنية التصوير بالكاميرا والبث المباشر، وتدور أحداثه في زمن الحاضر، أما المستوى الثاني “المسرحية داخل المسرحية” فيتجلّى في اللعب الدرامي للممثلين على الركح وهم يتمرنون على مسرحية “دون كيشوت تونس”، وتدور أحداثها في زمن الماضي. ويستعرض المخرج معز العاشوري مجموعة القضايا الكونية المتصلة بالإنسان كالحرية والعدالة. ويثير أيضا مسائل تتعلّق بالإرهاب والعدالة الانتقالية وحرية التعبير والإبداع. وقد جعل من التضييق الأمني على شخصيتي “عزيز” و“عزة” وهما بصدد الإعداد لعمل مسرحي، القضية المركزية في هذا العمل عن مصير حرية التعبير والإبداع بعد الثورة، فالرقابة، وفق أحداث المسرحية، أصبحت دينية بعد أن كانت سياسية. ويعتقد المخرج أنه لا فرق بين المنظور الديني والسياسي في التضييق على الإبداع الفني، فكلاهما، في تقديره، يشترك في “اغتيال” الفن وطمس معالمه الجمالية والإبداعية، لأنه شكل من أشكال المقاومة والتحرّر من سلطتهما. ويثير المخرج في العمل مجموعة من الإشكاليات حول مفاهيم “الحب” و“المقدّس” و“المدنّس”، ويقدّم أجوبة متضاربة حول هذه المفاهيم التي يطوّعها كلّ إنسان من خلال منظوره الديني والأيديولوجي والسياسي.
مشاركة :