هل تنجح مصر في استنساخ نموذج التنمية الصيني

  • 8/30/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بدأت تجربة الصين الاقتصادية تلهم عددا من دول العالم في مسعى للارتقاء بوضعها التنموي والاقتصادي وحتى الاجتماعي. وتأتي مصر من بين الدول التي بدا أنها تخطط لاستنساخ نموذج التنمية الصيني وتطبيق مبادئه، في محاولة لعلاج مشاكلها والخروج من حلقات الأزمات الخانقة. ومع قيام مصر بصياغة وتنفيذ برنامجها الإصلاحي الاقتصادي تم ذكر “نموذج التنمية الصيني” بوتيرة متزايدة في الخطاب الرسمي كمثال إيجابي على ذلك. وتؤمن الحكومة المصرية بأن النموذج الصيني يمثل ملاذا، وفرض نفسه على الساحة العالمية، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. ظهرت بوادر الاستلهام منذ اللحظات الأولى لتولي الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي السلطة في البلاد عام 2014، عندما عبّر عن إعجابه بالصين، وقام بزيارتها أربع مرات خلال ثلاث سنوات، كنوع من التقدير الاقتصادي والسياسي لبكين وقيادتها. لفت هذا التقارب انتباه معهد الأمن القومي الإسرائيلي، حيث أعد تقريرا حمل عنوان “نموذج التنمية الصيني: علاج للمشاكل المصرية؟”. وفي ذات السياق نشر مركز “ورلد بوليتكس ريفيو” تقريرا حول تبني مصر وبعض الدول لنموذج التنمية الصيني. ركز التقرير الثاني على التعاون بين البلدين في بناء العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، لكن تقرير المعهد الإسرائيلي تناول بإمعان تجربة بكين ومدى قدرة القاهرة على إعادة تطبيقها. ويشير الباحثان في المعهد الإسرائيلي، أوفير وينتر ودورون إيلا، إلى أن الصين تعتبر دليلا على أن النظام المركزي الذي يجمع بين خصائص اقتصاد السوق الحر ضروري في تحقيق الأهداف الوطنية لبلد نام مثل مصر. بعبارة أخرى، فإن مثال مصر للنموذج الصيني يمنح الشرعية لنوع من الحكومة يركز بشكل أكبر على الاستقرار والتنمية. مقارنة سياسية أم علمية شكك الخبراء، من بينهم أوفير وينتر ودورون إيلا، في ما إذا كانت مصر ستكون قادرة على تنفيذ النموذج الصيني كطريقة عمل شاملة، بسبب الاختلافات في الممارسات الحكومية للبلدين وتماسك النظام، والبيئات الاقتصادية الإقليمية والدولية لكل منهما. يبدو أن مصر تسعى إلى الجمع بين عناصر نموذج التنمية الغربية ونموذج التنمية الصيني، وهو ما يشبه في بعض ميزاته الاقتصادية النموذج الغربي لكنه يرفض ميزاته السياسية. ويقول الباحثان إن وضع نظام السيسي سيتأثر إلى حد كبير في السنوات المقبلة بنجاح هذه الاستراتيجية لتكون بمثابة مفتاح للازدهار الاقتصادي في مصر وعلاج لمشاكلها، خاصة وأن القاهرة مصممة على استكمال طريق الإصلاحات، على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهه، والتي أشاعت أحيانا أجواء من عدم التفاؤل كثيرا. تناول نقاط الالتقاء والتوازي بين التجربتين المصرية والصينية يجب أن يكون بعيدا عن الأرقام، لأن حجم الاقتصاد المصري من الصعوبة مقارنته بالاقتصاد الصيني الذي يحتل مرتبة عالمية متقدمة. ومع أن التجربة الصينية قائمة على نظام الحزب الواحد – الحزب الشيوعي – إلا أن إصرار النظام المصري على تنفيذ خطوات ومراحل خطط الإصلاح يوازي قوة الحزب الواحد في تجربة بكين، ويبرهن ذلك افتتاح جميع المشروعات الكبرى التي أعلن عنها الرئيس المصري قبل مواعيدها. علاوة على القدرة التفاوضية التي ظهرت في مواقف بدت للوهلة الأولى كأنها مستحيلة، لكنها قابلة للتنفيذ، مثل حفر قناة السويس الجديدة، وكان مقررا لها ثلاث سنوات، لكن السيسي أرادها في عام واحد، وتمت الاستجابة له فعليا. تعكس هذه السرعة الإصرار على تنفيذ المخططات التنموية، وإن نالت بعضا من شعبية النظام السياسي، من منطلق أن ضبط الخلل الكلي يعيد إصلاح المنظومة العامة والأمور الجزئية. يمثل إصرار القاهرة على مسايرة بكين في هذه النقطة إحدى نقاط الالتقاء، حيث تسعى للنمو خلال الفترة المقبلة بمتوسط يعادل 6 بالمئة، في محاولة لزيادة حجم اقتصادها، بما يعزز من تحقيق نظرية تساقط ثمار النمو للفقراء تزامنا مع الانتعاش الاقتصادي. يكمن تفرد النموذج الصيني الذي انطلق عام 1978 في التركيز في مرحلته الأولى على تحقيق التنمية في المناطق الريفية أولا واستغلال طاقاته وإمكاناته، وتلك خطوة وضعت أولى لبنات النجاح، تلاها في المرحلة الثانية إصلاح المدن والمناطق الحضرية، ثم تطبيق منظومة الإصلاح الشامل في المرحلة الثالثة. لم يبدأ النموذج المصري بتنمية الريف، لكنه أمعن في تطوير المناطق الحضرية وتوسع في إنشاء 10 من المدن الذكية من الجيل الرابع، منها العاصمة الإدارية الجديدة وتقع في شمال شرق القاهرة، على بعد 45 كيلومترا، والعلمين الجديدة على الساحل الشمالي للبلاد، والمنصورة الجديدة شمال البلاد، إلى جانب التوسع الكبير في الاستثمار العقاري، ومشروعات البنية الأساسية. يرجع ذلك إلى أن مصر تريد جذب أنظار العالم إليها مع تنامي انتشار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، خاصة أن نظريات السبعينات في الاقتصاد الاستهلاكي والريعي لا تتواكب مع المرحلة الحالية. تطورات متفاوتة لم تفض الفورة الإصلاحية في حقل العقارات إلى توسع مقابل في مجال الصناعة الحيوي الذي تنعكس مردوداته على جميع فئات الشعب ويضخ دماء غزيرة في شرايين الاقتصاد. وقال مصطفى إبراهيم، نائب رئيس مجلس الأعمال المصري الصيني، إن بكين أنشأت سبع حضّانات صناعية في سبع مقاطعات لتوطين الأنشطة الصناعية وتشغيل الشباب لمواجهة الفقر، وترتب على ذلك بناء جيل من الكوادر البشرية قادر على الإنتاج. بهذه الطريقة حولت بكين أزمة الزيادة السكانية إلى فرصة وطاقات عمل ساعدت على مضاعفة الإنتاج، وارتفاع حجم الاقتصاد، وبنت جيلا من الطامحين والأثرياء دفع محركات النمو إلى الأمام، بصورة أوجدت الصين العملاقة والتي نراها اليوم. وأضاف إبراهيم لـ”العرب” أن نجاح الحضّانات السبع ساعد على تكرارها في مختلف المقاطعات، وباتت كل مقاطعة تتميز بمنتج صناعي محدد يستطيع المنافسة في جميع الأسواق. تظل تجربة الصين في المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر ركيزة انطلاقها، وهو القطاع الذي تسعى مصر لتنميته لكنه يواجه تحديات البيروقراطية العميقة التي تحد من انطلاقه. شيدت الحكومة المصرية عددا من المدن الصناعية لتوطين الصناعة على غرار التجربة الصينية، ودشنت مدينة لصناعة الأثاث في دمياط على البحر المتوسط، وأخرى في منطقة مرغم بالإسكندرية لصناعة البلاستيك، وثالثة في مدينة أطفيح بمحافظة الجيزة القريبة من القاهرة لمواد البناء، ورابعة للمنسوجات في محافظة المنيا بجنوب مصر، علاوة على مدينة للجلود في منطقة الروبيكي بالقاهرة. تلت الثورة الصناعية فورة في التشييد والبناء والاستثمار في الصين، ساهمت في نمو شركات العقارات الصينية لتصبح محركا للنمو على مستوى العالم، فعندما تبنى ناطحة سحاب ترفع أسعار الحديد عالميا وغيرها من مواد التشييد والبناء. تفردت تجربة الصين بثورة التنين الأصفر على الجهاز الإداري للدولة، وارتكز نموذجها على فصل الملكية عن الإدارة وسمحت للقطاع الخاص بتشغيل المنشآت الصناعية والتجارية. وهو الفرق الجوهري بين مصر والصين، حيث بدأت الدولتان خطط الإصلاح معا في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، نجحت بكين وتفوقت، بينما تعثرت القاهرة التي خاضت تجارب سياسية عدة لم يفلح أي منها في أن يضعها على الطريق الاقتصادي الصحيح. أصّل الحزب الشيوعي في بكين لمبدأ ملكية الدولة للأصول مع خصخصة الإدارة، لكن اختارت القاهرة التحول إلى السوق الحرة وبيع أصول الدولة، وفطنت مؤخرا إلى مواجهة البيروقراطية وطبقت قانونا للخدمة المدنية لمواجهة الفساد في الجهاز الإداري بعد أن ضربت جذوره في الأرض لعقود طويلة. أصبحت النهضة الصينية نقطة مضيئة من خلال مضاعفة حجم الاقتصاد على مدار سنوات متعاقبة، وهي معجزة بالمعنى الحقيقي للكلمة تبحث عنها الدول الراغبة في الخلاص من الفقر. اتبعت القاهرة خطى اقتصادية جريئة عندما حررت سعر صرف عملتها في نوفمبر عام 2016 وترتب على ذلك تخفيض قيمة الجنيه المصري لأكثر من النصف أمام جميع العملات الدولية، ولم تجد ما تصدره لأنها لم تقم ببناء قاعدة صناعية قوية مثلما فعلت الصين. يحتاج الحكم الدقيق على تجربة القاهرة في هذه النقطة سنوات طويلة، لأنها خرجت من ثورتين شعبيتين شُلّت فيهما الكثير من مفاصل الاقتصاد. ثمار للأغنياء فقط اد إخفاق القاهرة في جني ثمار كبيرة من المشروعات متناهية الصغر، من معدلات الفقر المصاحبة للإصلاح، وافتقر ثلث الشعب رغم الفورة في المشروعات العملاقة، وتتساقط ثمارها في حجر الأغنياء، بينما يزداد عدد الفقراء. وهي نقطة ضعف رئيسية في النموذج المصري الذي يبدو منحازا للأثرياء. كشفت هذه المفارقة بيانات أعلنها جهاز الإحصاء المصري (رسمي). ولتجميل الموقف خرجت وزيرة التخطيط تقول “إن بيانات الفقر المعلنة إنما عن عامين ماضيين، لكننا إذا قمنا بحسابها حاليا سنجدها أقل من المعلن”. استطاع النموذج الصيني انتشال نصف السكان من قبضة الفقر، الأمر الذي زاد من الإعجاب بالتجربة الصينية. وتعد تجربة التحولات الشاملة التي عرفتها الصين منذ قيامها عام 1947 ملهمة للكثيرين في جميع أنحاء العالم، واجتذبت في مرحلتها الأولى، تحت قيادة ماو تسي تونغ الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي الصيني، الشباب المتحمس للعدالة الاجتماعية، وكان ينفر من النموذج السوفييتي ببيروقراطيته وسجله الدامي في التعامل مع الفلاحين. بعد وفاة ماو وصعود دنغ هشياو بينغ انقلب على سياسات سابقه وشجع القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي، واستمرت البلاد نموذجا يحتذى به في معدلات النمو العالية وغير المسبوقة في التاريخ. كانت معدّلات النمو تتجاوز في بعض السنوات 10 بالمئة، ما جعلها أكبر اقتصاد في العالم، وقفزت جامعاتها بتفوقها العلمي إلى الصدارة، ومنها أربع جامعات ضمن أفضل مئة جامعة في العالم. في حين تحتاج المنظومة التعليمية في مصر إلى ثورة إصلاحية، وأدى تراجعها إلى ظهور تعليم مواز. وتبقى دروس النجاح في النموذج الصيني ظاهرة، لكن تطبيقها يحتاج حكمة ورشادة ومثابرة للوصول إلى الغاية التي فرضتها بكين على الدول الراغبة في الصعود على ساحة التنمية في العالم.

مشاركة :