لم أكن أتخيل أن سوق عكاظ سيتغير عن الأعوام السابقة، ولكن ذلك التوقع تكسرت جدرانه في رأسي خلال لحظات الرحلة المقررة للسوق فما أن تدانت معالمه في عينيّ رويداً رويداً من بعيد وأنا في الحافلة، حتى اتشحت ملامح التغيير بثياب قشيبة كلما اقتربنا أكثر فأكثر من الموقع التاريخي. كانت البوابة الرئيسة مخصصة للمشاة فقط وكان الدخول منظماً أكثر من ذي قبل عبر مسارات مختلفة وسلسة للمتعاكظين وإجراءات دقيقة بشكل يومي. أول ما قابلنا ساحة الشعراء والمعلقات، حيث تلك الشاشات السبع لشعراء المعلقات التي تعرض موادَ درامية وخلفها تظهر صور شعرائها وأبيات من معلقاتهم. وعلى يمين المدخل ضمن الحي التاريخي تشدك صخرة عكاظ وقبته التي كان يصعد عليها النابغة ليحكم بين الشعراء ومن أشهرهم الأعشى والخنساء وحسان بن ثابت. وفيها تقدم بعض العروض الدرامية التي تروى عما كان يدور فيها بين الشعراء والخطباء من أحداث وقصص وقصائد وخطب. وفي الجهة اليسرى ساحة فرسان عكاظ تقدم فيها العروض الحية ويمكن للزوار ممارسة هواية ركوب الخيل وبإشراف الفرسان المحترفين. أخذت جادة عكاظ شكلًا جديداً هذا العام تمثل في توسيع المنطقة الوسطية وزيادة المدرجات على الجانبين ضمن المسرح التاريخي ويقدم فيها عروض الخيل وقوافل الجمال ومشاهد درامية عن شعراء المعلقات وفرسان وحكماء العرب وبعض الأحداث الشهيرة كداحس والغبراء ضمن شكل المسرح المفتوح. يحيط بالجادة الأسواق العربية التاريخية، حيث تجد سوق الفخار والنحاس والبردي والزجاج والحديد والملابس والسدو والجلديات.. إلخ، وبينها تتنقل القوافل وكأنها تحاكي رحلة الشتاء والصيف، وفي هذه الأسواق تظهر إمكانات ومهارات وإبداعات العربي منذ القدم في تعاطيه مع الحرف اليدوية المختلفة التي استمرت مع العربي في العصر الحديث من خلال الحرف اليدوية التي يمكن مشاهداتها في حي العرب عبر أجنحة الدول المشاركة بحضور متميز للمرأة والرجل. وحي العرب هذا يحيط بالجادة ويضم مقرات إحدى عشرة دولة عربية: الإمارات والبحرين والكويت وعمان ومصر والمغرب وتونس والأردن إلى جانب المملكة، عبر نقل كامل لطرز البناء وأنماط الحياة في تلك الدول وفي مناطق المملكة. فكان هذا الحضور تعزيزاً لكون سوق عكاظ ملتقى للعرب ولكون الطائف مصيفاً لهم. وما أن تدخل إليها تبدأ تتنامى إلى أذنيك في كل مقر ما يؤانسهما وينشر في الأجواء الألفة والطرب. تبدأ الروائح المختلفة تغازل الأنوف ما بين الدخون والعطور والطبخ وألوان الفنانين التشكيلية. تبحر مع موسيقى الأطلس وصوت ناظم الغزالي ومحمد الزويد وعبدالحليم حافظ وعوض الدوخي وطلال مداح ومحمد عبده وفيروز وأم كلثوم وأسماء أخرى خالدة في تاريخ الموسيقى العربية. ترتوي ذائقتك بمنتجات المرأة العربية وحرفها اليدوية في مقرات الدول المشاركة (إلى جانب حرف الرجل) بمختلف أشكالها وخاماتها من الخشب والقماش والسدو والنسيج والتطريز والنقش المتنوع وبالحنا والحفر، حيث عشرات المهرة من أصحاب الحرف، وبازارات متنوعة في الملابس والمقتنيات والإكسسوارات والمأكولات والمشروبات وأدوات الزينة والنظافة والتحف والأثريات والهدايا. ولعل هذا التنوع في الحرف والخامات يؤسس لانتقال بعض الحرف والأشكال إلى مناطق المملكة مثل النحت على سعف النخيل والتطريز بالفضة وغيرها حتى ولو عبر الخامات التي يمكن استخدامها في الفن التشكيلي. وفي حي العرب العكاظي يظهر التنافس الحميم بين المطابخ العربية عبر الوجبات والأكلات العربية الشهيرة من الشاورما اللبنانية إلى منسف الكرك والطاجن المغربي وصب القفشة الكويتي والكشري المصري والمسكوف العراقي والصحن التونسي والشواء في عدة مطابخ. في عكاظ تستمتع بصرياً مع لمسات الفنانين الذين يرسمون بخامات مختلفة وتتحاور معهم. تقوم برحلات حضارية عبر المواقع والآثار والمعالم والرموز، عبر المقاهي القديمة وأسماء الشوارع العربية، تتصور جوار أبراج الكويت وتزور نزوى العمانية وتناجي البترا الأردنية وتتجول في مغارة جعيتا اللبنانية ومقهى أم كلثوم في القاهرة ومقهى بغداد وسينما الحمرا في العراق وشارع الحبيب بورقيبة في تونس وجامع الحسن الثاني في الدار البيضاء. يدهشك توزيع مئات الممثلين في مختلف جهات السوق الذين يؤدون أدوار الشخصيات الشهيرة للشعراء والقادة والخطباء والحكماء والفرسان الذين يمثلون المهن الأخرى من سقاية وحراسة وأمن، يتحاورون مع الزوار ويتفاعلون معهم. كما تنقلنا في ساحات العرب ومنها: ساحة اللغة والثقافة وتجولنا في معارض مختلفة تسلط الأضواء على المعلقات وشعرائها ومراتب الشعراء وأسرهم وتاريخ الكتابة واللغات وحضرنا عدة ندوات وأمسيات شعرية ضمن البرنامج الثقافي الذي تشرف عليه جامعة الطايف. في ساحة علماء العرب عروض متنوعة تبرز سير عدد من علماء العرب في مختلف العلوم خدمة للحضارة الإنسانية بالصور والمعلومات والهولوغرام والأفلام والصور والرسومات. وفي ساحة الفن والموسيقى تدهشك تلك العروض الموسيقية والوصلات الغنائية والرقصات الشعبية تارة مع المزمار وأخرى مع (العيّالة) وثالثة مع الدبكة والليوة والزفة وغيرها. وتطرب مع الموشحات والقدود الحلبية والدانات والمجسات والمجرور وغيرها من الألحان الشهيرة بمصاحبة بعض الآلات الموسيقية والإيقاعات الشعبية أو بحضور التخت الشرقي. كما تستطيع شراء آلتك الموسيقية التي تحب وأخذ صورة احترافية أو الرسم على وجوه أطفالك. تطالعك ساحة الجاحظ عبر مؤلفاته وفي مقدمتها كتاب الحيوان. وفي ساحة فتيان عكاظ يمارسون الألعاب والرياضات مثل رمي السهام وبعض عروض السيرك والعروض البهلوانية وعروض الدمى والمسابقات. كما يمكن لزائر السوق الاطلاع على معرض قواتنا المسلحة بمختلف قطاعاتها وفروعها. في المسرح الرئيس تابع محبو الحفلات الغنائية أربع حفلات لعدد من الفنانين: عبادي الجوهر وداليا مبارك وحسين الجسمي وتختتم لاحقاً الحفلات مع أصالة وأحلام في هذا المسرح الذي شهد حفل الافتتاح، حيث تابع العرب عبر البث المباشر إعلان شاعر عكاظ الصديق محمد إبراهيم يعقوب إلى جانب الشاعرين الصديقين عبدالله عبيد وشتيوي الغيثي في المرحلة الأخيرة من مسابقة شاعر عكاظ التي أشرفت عليها مؤسسة الملك فيصل الخيرية. ما مضى كان مروراً على فعاليات سوق عكاظ فقط ضمن موسم الطائف الذي اتخذ شعاراً له هو «غيّر جو»، الذي يضم فعاليات أخرى كثيرة ومنوعة ومنها: قرية الورد، والسينما، ومهرجان ولي العهد للهجن، والمتاحف التاريخية، وسيد البيد تقدير للشاعر محمد الثبيتي - رحمه الله- ضمن ممارسة المغامرات مع الهايكينج، وماراثون الألوان، ومهرجان التسوق، والجولات السياحية. الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني كانت شامخة ومتميزة فيما قدمته هذا العام من خلال الجهود الكبيرة في الإعداد والتنسيق والتنظيم والإشراف والمتابعة لمختلف التفاصيل في الميدان، خاصة تنظيم دخول وتحركات الزوار في ساحات وأجنحة وممرات السوق ومداخلها ومخارجها بانسيابية متميزة رغم الازدحام الشديد في بعض ساعات وأيام السوق. وأنت داخل محيط السوق تجد كل ما تريد من مطاعم حديثة ومطاعم الأسر المنتجة ومقاهي ودورات المياه والنظافة والخدمات المختلفة من العربات والسيارات الصغيرة المختلفة الأشكال لتنقل الزوار في أجنحة السوق الكبرى وتنظيم دخولهم وتنقلهم وخروجهم، واللوحات الإرشادية المتعددة في زوايا وممرات السوق وأكشاك إرشاد الزوار والمفقودات، إلى جانب المركز الإعلامي النشط على مدار الأيام العكاظية لتعزيز المحتوى عبر وسائل الإعلام التقليدية والجديدة. يعزز هذا كله شهادات من قابلتهم أو عبر الأصداء الإيجابية في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد. إن الرحلة العكاظية أصبحت متنفساً ثقافياً وتراثياً وفنياً واجتماعياً وترفيهياً للأسرة بمختلف أفرادها كباراً وصغاراً كجرعة دسمة تجتمع في ثناياها المتعة والفائدة، ومن جهتي تكررت يومياً خلال إقامتي في الطائف. جاء سوق عكاظ هذا العام ضمن موسم الطائف منذ مطلع شهر أغسطس إلى الحادي والثلاثين منه، حيث أخذ مدة شهر مكنت الجميع من الحضور والمشاركة والتفاعل قبيل بدء العام الدراسي الجديد، ومن المبهج هذا الحماس والإسهام المتميز والتفاني في العمل والابتسامة الدائمة والمبادرة بتقديم الخدمة لدى الشابات والشباب السعوديين الذين عملوا في هذا الموسم بحب وتفاعل في مختلف المواقع من المطار إلى الفنادق إلى مقرات الفعاليات وداخل سوق عكاظ. هذا الموسم أسهم في أنسنة الطائف وعودة الحياة إليها من جديد مع الأشكال الأخرى التي بدأت تتنامى تواكباً مع الرؤية السعودية المباركة. ولعل هذه التجربة الناضجة لسوق عكاظ في دورته الثالثة عشرة تدفع هيئة سياحتنا الموقرة إلى مزيد من التميز والنجاح في الدورة القادمة بقيادة معالي رئيسها الدكتور أحمد الخطيب وفريق الهيئة الرائع من النساء والرجال، وأهم إضافة ينتظرها المتابعون بناء فندق كبير وموتيل يستوعبان ضيوف المهرجان وبعض زواره. إن البناء على نجاح هذه التجربة هو العتبة الأولى في طريق استمرار النجاح لهذا المهرجان الوطني العربي الكبير . وأتمنى على هيئتنا الفتية التنسيق مع أمانة الطائف ووزارة البيئة والمياه والزراعة لزيادة الرقعة الخضراء في السوق والمناطق المحيطة به والطريق الموصل إليه، وتسميته رسمياً بطريق عكاظ. *شاعر ومستشار ثقافي
مشاركة :