"امرأة تلامس الخيال" صرخة لإيجاد منفذ للهروب من الواقع المرير

  • 8/31/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

حين تكون الرواية شغفا بالحياة، ومغامرة في المشي على الحواف، وسقوطا آتيا معلوما في الهاوية، وحين تتلاعب الصورة بمشاعرك وتداعب عقلك عبر حثه على المشاركة في اللعبة، وحين تسلبك اللغة قدرة الفصل بين الخيالي والحقيقي، وتجرّك نحو الغرف من الخيال، وتقنعك بأن الخيالي هو الحقيقي، نحن إذن أمام مشهد روائي يجدر بنا التوقف عنده، لأنه مغاير عن السائد في الوصف والفكرة والمعالجة، كما قدمها ميشال أبوراشد في روايته القصيرة “امرأة تلامس الخيال.. الحقيقيال”. وإذ تكمن قوة الفكرة في القدرة على تجسيدها في سياق حياتي معيش، فالكلام النظري المجرد، له قراؤه وهواته المصرون على رؤية أي نص شيفرة يجدر تفكيكها بحسب مقولات الفلاسفة، الأقدمين منهم والمحدثين. في حين أن تجسيد هذا الكلام في نص واقعي أو خيالي، يعطيه حياة فيثمر. الحقيقة والخيال الطرح الجديد لميشال أبوراشد في روايته الأولى، الصادرة حديثا (2019) عن دار سائر المشرق، هو أنه جعل للفكرة حكاية، مؤمنا بأن للفكرة حقا بأن تكون لها حكاية، بما تعنيه الحكاية من مواجهات وصراعات وحركة. وإن كان بعض النقاد يعيبون على كتاب الرواية هيمنة الأفكار على الأحداث، وقد لاحظنا في المشهد الثقافي العربي، اعتماد الرواية بوصفها منبرا للخطاب الأيديولوجي، وبخاصة الروايات التي تناولت الحروب أو واكبت الربيع العربي، إلا أننا مع نص ميشال أبوراشد أمام حكاية الفكرة، في متعة التفاصيل عند تكوّنها ومسار تطورها وجدلية بقائها، وذروة وجودها؛ وقد جعل علم النفس والفلسفة جغرافية فكرته التي تتكون على أرضهما، ومن ثم جعل الخيال أرضا لتلقّي الحقيقة، ليس على سبيل الكشف والانكشاف أو الحدس الصوفي، إنما جعلها أرضا خصبة في مقابل الواقع. تحمل فكرة الرواية مصير سيزيف في مشقة اللاوصول، وإن كان الهدف تجاوزا وتخطيا لكل العوائق؛ ففي عنوان الرواية “تلامس الخيال” تبقى في حيز فضاء المتخيل الشخصي، وهو ما أعطى نصه هوية اللامكتمل إلا بفضاء متخيل آخر، فالفكرة في نص ميشال تبحث عن علاقات وجودها في المعية الإنسانية لكنها محكومة بالتجريد، إذ يبقى اللمس في حيز المُحال، وإلحاح الرغبة يسير في خط مواز مع خيبة المسعى عند جميع شخصياته: فالشخصية الأولى، عبير، كالعطر، يشم ولا يلمس، كفكرة أبوراشد تماما، تقابلها الشخصية الثانية التي تستكمل مسيرها؛ نغم، الصحافية، نغم صوت الحقيقة، الباحثة عنها، العابرة إليها حتى الخواتيم. لنص ميشال أبوراشد طبيعة روحية وجسدية في آن، يتأرجح بين الرهافة الرومانسية القصوى والفظاظة الواقعية في أقسى تفاصيلها. يحاول أن يقدم الخيال علاجا حقيقيا بنقله إلى حيز الحقيقة عبر نحت مصطلح “الحقيقيال”، ليصبح مسار الرواية سعيا إلى حق اختيار الحلم وتاليا الحياة، بعيدا من التفاضلية وأسبقية الأحكام في الأجدى والأنفع. كل إنسان هو سيد أحلامه، وهو سيد اختباراته، عبر الخيال، وكما ورد في الرواية “فالحقيقة والخيال لا يتناقضان، بل يتكاملان حدّ الانصهار. ونقيض الخيال هو الواقع، والحقيقي يختلف كل الاختلاف عما هو واقعي”. يحاول أبوراشد أن يبني عمارته في مثلث متساوي الأضلاع؛ الواقعي، الحقيقي، الخيال. هو نوع من الابتعاد عن عقم الدوائر في إعادة المعيش. عبر مثلث حياتي مقابل: الصحافة، وانغماس ممتهنيها في الواقع انغماسا يقص أجنحتهم، تمثل هذه العينة الصحافية؛ نغم، في إعادة فتح الماضي لإكمال قصة لا تنتهي، والإفادة من نصيحة خبير في الصحافة قد انعزل في أرشيفه: عن ضرورة أن تلازم مبادئ القصة في العمل الصحافي. بئس المقالات والتقارير أيا كانت، ما لم تحمل روح الخبر والتفاصيل. الزاوية الثانية: الطب النفسي في اختباراته أساليب علاج جديدة، يمثله؛ ريمون نصار، الذي يمثل الانغماس في بواطن الذات، والتجريب في أعماق الآخرين، مصدر إلهام لطمع الشهرة والابتكار، ومحاولة إسقاط ما يجول في باله، إذ يقول “أريد أن أجعلك تقدّرين قيمة خيالك، كل التخيلات التي تخالجك ما هي إلا حقيقة في ذاتك، وذاتك حقيقية، وبالتالي الخيالات حقيقية”. أمّا الزاوية الثالثة فهي النزعة الرومانسية في احتفال عناق الأرواح، ولمس الروح دربا إلى التحليق مع الإلهة، كذلك رغبة الأجساد في شغفها ملامسة من تعشق، عبر شخصية؛ عبير، وما تمثله “عبير هي ذاك الغبار السحري الهائم في أعمق نقطة من كل امرأة قابلتها يوما. والنساء متشابهات في العمق، في سحر الأنوثة التي يقتلها الواقع ولا تشع إلا في الخيال. أليست الأعماق خيالا؟ أليست الذات خيالا؟”. الهروب من الواقع أما الإجابة عن السؤال: كيف يسرد ميشال أبوراشد حكاية فكرته؟ يسرد حكايته بلغة تنبض شغفا، بلغة تحترف ثقافة الحياة، لغة الوصل والفصل في حركية، تتسارع وتيرتها حينا، (في الكلام عن الجسد والرغبة والأسئلة الملحة)، وتهدأ أحيانا أخرى، (حين اتخاذ القرار والإجابات والخروج من المآزق)، كذلك يلجأ أبوراشد إلى أقنعة الرموز، إلى المعاني المؤجلة، عبر الانفلات من المعاني الجاهزة والتأويلات الجاهزة، وإلى فلسفة اللحظة التي تلبس ألف قناع وقناعا في تفكيك علاقاتها بالعالم، الداخلي والخارجي. فأبوراشد يحترف التعبير في نصوصه عن اختزال الزمن في لحظة، ويلخص العالم في لحظة من الوصال، هذه اللحظة تحدد المسار، وبعد ذاك، إما السقوط، وإما المزيد من التحليق في الخيال. وحول تصنيف هذه الرواية أستحضر قول الناقد عبدالدائم السلامي في كتابه كنائس النقد “ما يحضر لحظة القراءة هو النص وليس جنسه، الجنس يبقى معلقا على غلاف الأثر ولا يدخل المتن”. وقد تكون هذه الرواية القصيرة هي صرخة أبوراشد في إيجاد منفذ للهروب من هذا الانغماس المرير في الواقع، وما تقتضيه واقعية أمانة الإعلام وقضاياه في الميدان، وقد تكون الصداقة التي ينشدها في الرواية إثباتا على أن الآخر ليس جحيما، بل هو نعيم اكتشاف الذات في البحث في زواياها. هي محاولة رسم لسيناريوهات الغياب والحضور، سيناريوهات النشوة الفكرية عند محاولة لمس الآلهة. وأعتقد بأن المشهد الثقافي الراهن، بحاجة إلى هذا النوع من الروايات الجديدة المنفتحة على كل أنواع التفاعلات النصية، المحمّلة بالأسئلة الوجودية، المحرضة على المزيد من التفكير والشغف بالحياة.

مشاركة :