ذوات عراقية حائرة تواجه الواقع المرير بالخيال

  • 6/11/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تنصرف الكاتبة ميسلون هادي في روايتها الأخيرة “جانو أنت حكايتي”، الصادرة عن دار الحكمة في لندن عام 2018، عن الشخصية صوب المكان لتجعله محورا يهيمن على المتن السردي بكامله، وبالشكل الذي يعطي للمعالجة الواقعية صيغة فنية ذات أبعاد رمزية ونفسية معا. المكان بطلا إن استحكام المكان على الشخصية والحدث والذاكرة والتاريخ جلي، ففي الرواية تبعة من تبعات واقع بشع فيه الحيوات كيانات مشوهة تتلاعب بها سطوة المسافات والحجوم والطوابق والممرات بالكبر والصغر أو بالتقلص والامتداد أو بالسدامة والامتلاء. وهذه الهيمنة المكانية على عناصر السرد الأخرى هو ما تراهن عليه الكاتبة ميسلون هادي سواء في بناء الأحداث وتصعيدها أو في تأزم الشخصيات وتطورها ليغدو الانفراج مسفرا عن مصائر، يتحكم فيها المكان الذي فيه تتصدع الذات وتنشرخ وقد يُرأب صدعها فتلتحم كينونتها. اعتادت القاصة والروائية ميسلون هادي التنويع في متونها السردية التي تتأطر بتمذهب واقعي أهم صوره الواقعية النقدية والواقعية الفنتازية والواقعية الغرائبية. وعادة ما يتمحور البناء الشكلي لتلك المتون حول الشخصية التي هي في الأغلب نسوية، لكنها في روايتها الأخيرة تنتصر للمكان على حساب الشخصيات. ولا طائل للزمان أمام المكان الذي موه المعيش اليومي بكل ما هو متخيل وحلمي استغوارا واستملاكا، فاستحال الماضي حاضرا يغص بالانمحاء والحزن والكوابيس. ويتسع المكان في نظر الحيوات ليغدو متناهيا في الكبر بتعبير غاستون باشلار موجودا “في داخلنا وهو متصل بنوع من تمدد الوجود. وهو حركة الإنسان الساكن”. وفي هذه الرواية يتجسد المكان بهندسة غير مألوفة لعالمين: واقعي ومتخيل، ويسهم الحلم في تمويه هذين العالمين في محاولة لمغالبة نستولوجيا وعي هائم ينبع من دواخل ذوات مترددة ومحتارة لا تقدر على مواجهة الواقع وشروره إلا باستجماع قواها التخييلية بشكل لا نهائي. وهذا ما تمثله شخصية هاني عبداللطيف بطل الرواية، الذي تتعالى التساؤلات في داخله، فتبزغ ديالكتيكية التشظي والانقسام على خارجه، متشظيا بين غربة لذيذة مستظرفة ومواطنة مريرة غير مستساغة. ويقتسم السرد صوتان هما صوت هاني الشاب الذي تشوه وجهه جراء اعتداء بالخطأ تعرض له هو وعائلته على يد الأميركان في الفلوجة وصوت جانو أو جنان خطيبة الطيار الذي وقعت طائرته واستشهد. وما يجمع بين الصوتين هو أزمتهما النفسية الواحدة، وسببها هو المكان وما فيه من الألفة والوحشة، القبح والجمال، التمظهر والانمحاء داخليا وخارجيا. ولهذا كله يغدو المكان في نظريهما غير معروف وقد أصابهما بالشرخ “أجد في المرآة شخصا لا أعرفه، شكله مقبول وأفضل من قبل، ولكنه ليس أنا”. وفي دوامة لا نهائية يتجلى أمامهما عالمان متسعان: الأول فاتن وجاذب هو الغرب ممثلا بأميركا ولندن، والثاني مفجع وطارد ممثلا بالفلوجة وبغداد. وما بين المكانين وواقعية تضادهما يرى هاني جانو موطنه الآمن الذي إليه ينتمي، واجدا فيه هويته وكينونته الأصيلة غير المستباحة، شاعرا أنه طبيعي وغير معاق ولا مشوه وهذا سر انشداده إليها وسبب حبه الجارف الذي به أدرك أن ذاته لم تتشوه من الداخل ولا من الخارج، بعكس ما كان يصارعه من تشظ مع قرينه الذي ظل يذكره دائما أنه لم يعد كما كان قبل الانفجار أو ريتا المصورة الأميركية التي كان يرى في عينيها دوما نظرة الشفقة والإحسان. ولا سبيل لهاني للخروج من مأزقه المكاني إلا بالحلم الذي به يستحضر طيف جانو مصرا على البقاء والمداومة، متحملا أهوال المكان ومنغصاته مموها ما حوله من موجودات، مغيرا الأبعاد وملغيا المسافات، جاعلا غير الحقيقي حقيقيا، حتى اسم جانو ليس الاسم الحقيقي الذي هو جنان. إن الواقع النصي الذي أساسه الحلم هو الذي يجعل المكان مهيمنا على الحيوات، بفاعلية المفارقة بين ما تعتقده الشخصية وما تشاهده ليغدو الوجود متصورا في الباطن وليس مرئيا من الخارج، وهو إما متشظ طارد وإما مطمئن جاذب، وهذا هو لب الأزمة التي تعانيها شخصيات الرواية. استثمار الرواية لتعقد العوالم هو شكل من أشكال الرواية الجديدة التي عرفها الفرنسيون مثل آلان روب غرييه وغيره استثمار الرواية لتعقد العوالم هو شكل من أشكال الرواية الجديدة التي عرفها الفرنسيون مثل آلان روب غرييه وغيره وهكذا تتموه صورة الوطن فيغدو طابور انتظار ومحطة نزول وصعود وباصا بطابقين: الأول غير مرغوب فيه، والثاني مجذوب إليه. الخيال والواقع يعمل التأثير الذي تتركه جانو على هاني في تحويل معتادية السرد بدءا من الافتتاح حتى الفصل التاسع إلى دراماتيكية فيها جانو شخصية محورية تسهم بقوة في تحبيك السرد ليبدو أكثر تعقيدا، وبتعددية صوتية وقصة ضمنية ناجمة من استرجاع جانو لقصتها مع خطيبها الطيار علي. ومما يساعد هاني على تجاوز أزمته المكانية اختراعات الوهم التي تجعل بيت جانو معادلا تمويهيا لوجودها الحقيقي. وبعد أن تغادر بغداد إلى لندن ينشد هاني إلى البيت ويعتني به معاينا جدرانه وأثاثه وحديقته واجدا في موجوداته أنيسا يشعره بالأمان والألفة والطمأنينية والثقة والانتماء والاحتواء، وما بين الحلم واليقظة يصبح حديثه مع الجدران هو حديثه مع جانو. وبالحلم يشعر أنه وجانو في مكان واحد حيث لا مسافات بين بغداد ولندن ويغدو الباب والحديقة والأرجوحة واقعا متخيلا هو جانو التي تمشي معه مغمضة العينين، كي لا ترى الواقع إلا كما تراه مخيلته. وبسبب لا نظامية المكان المعيش وغرابة هندسته وأنظمته ينهزم الواقع أمام الخيال ويكون للشعور بالانتماء شكل حلمي رومانسي بدلا من شكله الواقعي التجريدي. ولعل تصنيف الرواية على أنها من روايات الكثافة الواقعية للحقيقة يبدو مقبولا بناء على أمرين: الأول طبيعة الخلطة الجغرافية التي توزعت فيها الشخصيات ما بين عالمين: واقعي متشظ ومتخيل منتظم ضمن دوامة عالم شرير بلا ملامح حينا، وودود بلا قرار حينا آخر. والثاني بنائية الفصول التي تبدو قائمة على فكرة مكانية أساسها الانفصال والاتصال، فكل فصل يصلح أن يكون منفصلا نقرأه كقصة قصيرة مستقلة، لكنه أيضا متصل كمتوالية سردية مع الفصل الذي قبله والفصل الذي بعده. إن استثمار رواية “جانو أنت حكايتي” لتعقد العوالم هو شكل من أشكال الرواية الجديدة التي عرفها الفرنسيون مثل آلان روب غرييه وكلود سيمون ومشيل بوتور.

مشاركة :