كي لا أقع في مأزق المصطلحات فإنني لن أقول إنها «ظاهرة» ، كما أنني لن أدس رؤيتي في التراب وأقول إنها مجرد حالات فردية شاذّة، لكنني أيضاً أستطيع أن أخفف من وقع الجملة على المتلقّي وأقول مثلا تفشي طلب «الشرهة» من أُناس مقابل سرعة إنجاز معاملاتك لدى الجهات الحكومية أو الخاصة، أو عندما تشتكي في مكان عام عن تأخر إنجاز موضوع يهمّك في جهة ما ، فيبادرك أحدهم بجملة (ما يخدم بخيل) رغم أنه لايعمل بتلك الجهة، أما إذا كنت تريد أن تتأكد من تفشي الرشوة بنفسك فما عليك سوى أن تتوجه لمكاتب (الخدمات العامّة) التي تحمل لوحتها (تخليص المعاملات لدى الدوائر الحكومية) لتكتشف أن (لدى) مجرد كلمة للتمويه ، وإن «من» هي الأصح! في مكاتب الخدمات هذه بقدر ما تدفع تذوب البيروقراطيات المعتّقة في الأنظمة، فتكتشف – بفضل هذه المكاتب – أن هناك حداً أدنى للمخالفات وكذلك للرسوم، بل وحتى للأوراق التي بدون هذه المكاتب لا بد تملأ أحشاء الملف الأخضر ! هل أتخلى عن «الإرجاف» وتشويه سمعة مجتمعنا وأكفّ عن جلد ذاته وأقول إن الأمر لا يعدو كون هذه المكاتب تعرف الثغرات التي تلج منها وتصل لروح الأنظمة المغيّبة عن رجل الشارع العادي؟ ستكون الإجابة بنعم إذا كنّا نريد أن نتعامل مع الأمر من باب حسن النيات فقط ، والنيّة الطيبة رغم جمالها ونقائها لن تجعل عجلة التنمية تسير كما يتمنى المواطن، هي – النيات الطيبة -بأحسن أحوالها تجعل العجلة تسير «بالبركة» ،لكنها لن تستطيع إصلاحها إن هي توقفت فجأة! أما إذا كنّا نريد أن نبحث عن الإجابة المُرّة الصارمة فإن الأمر يكون في غاية الفوضى ،لكنها فوضى مدروسة ومرتبّة جداً حتى بدأت بكامل إنسانيتها، نعم إنسانيتها ، فالمكتب يعرض على شيخ طاعن في السن والوقار والتجاعيد دفع مبلغ كبير قياساً براتب الضمان ، العرض يبدو إنسانيا ، فما سيدفعه المواطن للمكتب سيقلّص دفع الغرامات أو الرسوم إلى النصف فيما لو ذهب المُسن لإنجاز معاملته بنفسه ! سيأتي من يقول أنك تهوّل الأمر، وإن هذا ليس من الرشوة، وصاحب هذا القول أما إنه صاحب مكتب لتخليص المعاملات ، أو أنه (واصل) ولم يُساوم يوماً على (التخفيض بمقابل)، أو بأقل الأحول مازال يعيش في مجتمع يؤمن بجملة الفزعة الشهيرة (تعرف أحد..)؟ النوع الآخر ممن تشكّل وعيه فجأة من الإعلام الجديد وسيسأل عن (مصادري) ، وهذا سأقول له إن (مصادري) دوماً هي (الشارع) ،فإن كنت لا تؤمن بمصداقية الشارع فتلك مشكلتك!
مشاركة :