النقد النسوي العربي وتحديات إثبات الهوية

  • 9/1/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لا اطلاقية في القول إن النقد النسوي هو مشروع إثبات أنثوية الهوية، قبل أن يكون خطابا فكريا وممارسة ثقافية، لأن هذا النقد هو المعبر عن تطلعات المرأة في صور نموذجية فيها الكيان المؤنث ليس ايقونات لرموز وطلاسم تخفي أسرارا أو تداري كينونات مقموعة ومستلبة، كي تجعلها تبدو في إطار مثالي ورومانسي وأسطوري تستحوذ عليه الأبوية؛ وإنما في صور ملموسة وواقعية للمرأة طفلة وفتاة وشابة وشيخة، ليكون كفاحها من أجل ذاتها هو تمثيلها المنطقي لحقوقها ومنها أمومتها التي فيها وجودها الحقيقي، الذي يستعيد حلما غابرا في مسار التاريخ البشري. ويحاول المناوئون للنسوية والمدافعون عن الثقافة الأبوية تسويف هذه الصور الرمزية والواقعية للكيان المؤنث، واصفين المرأة المتحررة بأنها كيان منقسم على نفسه، يعيش حالة اللا توازن والضعف وهدفها أن تنسى ضعفها، ومؤكدين أن ما تسعى إليه النسوية من تطلعات هو مجرد أوهام لن تنفع في إزالة صورة الفوضى عن النسوية التي ستظل غير قابل للفهم، مادامت روح التعصرن والتمييز قائمة على أساس الجنس وليس على أساس الاندماج الاجتماعي والثقافي القائم على التواصل الفاعل والتحاور البنّاء. وما موقف التحدي الذي تقفه الكاتبة العربية؛ إلا دليل قاطع على أن الانثوية حاضرة لا كمظهر سطحي، بل كفعل استغوار داخلي، فيه الأنثوية ليست رديفة المرأة حسب؛ بل هي هويتها ومصدر فاعليتها وسلاحها الذي به تفرض وجودها وتثبت إيجابيتها كصيرورة لها سطوة، وقيمة لها معطى، وكينونة منتجة يتعدى تفسيرها التحليل النفسي والتأويل المادي التاريخي، كما يتجاوز الطروحات الفلسفية والجنوسية والأسطورية والاثنية. ومن هذا المنطلق النسوي تأتي طروحات سيمون دي بوفوار، التي وقفت إلى جانب المرأة بكليتها وأعطت للجنوسة حقها، ومن أقوالها (لا يمكن للمرأة أن تكون بالمقابل فردا كاملا مساويا للرجل إلا إذا كانت هي نفسها شخصا بشريا لها جنسها الخاص) ولم تتردد دي بوفوار من مؤاخذة المرأة حين تصبح منقادة تحت تأثير عاطفة الجسد النابعة من خيالاتها وزهوها وتهافتها على المظاهر البراقة التي تنقصها. وللنقد النسوي العربي متاحات تتحرك فيها المرأة بحرية، تفاعلا ومحاورة وانفتاحا فلا هي تفرض ذاتها على الاخر، ولا هي تنغلق على ذاتها مغيبة وجودها وملغية كينونتها الانثوية. والتعريف بمواضعات هذا النقد وأبنيته النصية ومساراته وتقنياته، أمر لا مفر منه كي يتأصل البناء الثقافي لهذه الممارسة الكتابية الداخلة في خانة النسوية وليصبح النقد النسوي فرعا مهما من فروع النقد الثقافي ونقد النقد. وفي مقدمة التحديات التي تواجه ممارسة النقد النسوي السؤال حول الكيفية التي بها نفرق بين نقد نسوي وآخر أنثوي؟ أو ما المزايا التي يتحتم على ممارس هذا النقد الاضطلاع بها؟ وهل نموضع المرأة قيمة اجتماعية والرجل قيمة مضادة؟ أو العكس؟ ومدى صحة المنطلق الجندري في ايجاد منهجية جنوسية تنضوي تحت مسمى النقد النسوي الذي هو في الاساس مندرج في اطار النقد الثقافي؟ ولو بحثنا عن نقد مارسته المرأة بمنهجية تغاير السائد والمعتاد في النقد الأدبي، لوجدنا أن الناقدة نازك الملائكة تقف في مقدمة الناقدات العربيات اللائي مارسن النقد البنيوي متفردة بخصوصيتها على سائر ما كان يكتبه مجايلوها من نقود، وذلك في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) الذي تناوله د. صلاح فضل بالدراسة، واجدا أنها وإن لم تعتمد على مبادئ نظرية بنائية واضحة؛ إلا انها (ألقت الضوء على قضية الشعرية واجتهدت في وصفها بما تملكه من وسائل منهجية). وللناقدة خالدة سعيد في كتاب (حركية الإبداع) ملامح نقدية ذات خصوصية نسوية وهي «تتقرى طريقها تبتدع المنارات أو تسقطها تطرح الاسئلة تستقبل الاجوبة أو تجترحها تنقضها تنكفئ تتوحد بالماضي تبحث عن مطلق.. تتفرس في الواقع.. تبحث في رموز الماضي دماء الحاضر تبدع الأحلام والرموز تسقطها لتبحث عن جديد هذه الحركة المأساوية الباحثة هي كما أرى علامة الحياة في زمن الموت» وفي هذا البوح إعلان عن ذات ناقدة تستنطق نفسها بين زمنين، باحثة على وفق حركة دؤوبة عن ملامح حركة الحياة في دراسة تباشير الحداثة العربية، مركزة من الناحية اللغوية على تغليب المفردة المؤنثة على اللفظ المذكر، في تعبيرات مثل: (اللغة العربية وأحادية التعبير) أو (إعادة الاعتبار للابداعية الانسانية) أو (عصر النهضة والصلة بين النصوص القديمة والحديثة). وحيثما تطفو ذاتها على سطح النقد نلمح ذلك التأرجح في الكفة لصالح المؤنث، لكن بالمقابل تضمحل حدود سلطتها مع تصاعد النظر البنائي للنص المقروء فتركز على البناء والهندسة والمعمار. وعلى الرغم من أن الناقدة آثرت التأرجح لتحقيق الحركة، فإنها سرعان ما تعود ماسكة بزمام الأمور من جديد، ملتفتة نحو الموقف والنظر والغرض في فعل دائري يبدأ بالذات وينتهي إليها. ومن أمثلة ذلك تعريجها على النزعة الصوفية في العودة إلى (الطبيعة المثالية ولا نهائية العودة) ومناقشتها للطبيعة الذاتية عند جماعة أبولو وتحليلها قصيدة (الغريب) لإبراهيم ناجي باسلوب قائم على الحركات البنائية. ونجدها في نقدها لشعر أنسي الحاج تبحث عن صراع اللغة واللالغة وما لهذا الصراع من تأرحج داخل الذات الناقدة وهي تظهر تارة وتارة أخرى تتوارى. وهو ما يتكرر ايضا في نقدها لشعر ادونيس وتحليلها لقصيدة (النهر والموت) للسياب ببنيوية سعت الناقدة من خلالها إلى بلوغ إيقاع الشوق والتجاذب بما سمته الهوية المتحركة والحركة الدائرة. وخصصت القسم الثاني من كتابها للرواية والقصة بينما اختص القسم الثالث بالقصة القصيرة مهتمة بالنتاجات الادبية التي أصحابها مبدعون رجال ولم تذكر سوى قاصة واحدة هي ليلي بعلبكي وروايتها (أنا احيا) لكنها وجدت لديها «أن اللهجة الحادة والصراحة الجريئة والتصوير التحليلي الذي يعري الرجل من اسطورة التميز هي بحد ذاتها فاصل مميز وايذان بعهد جديد». وعلى وفق هذين الانموذجين النقديين تتحرك الهوية الانثوية ساعية إلى بلورة تناقضات الكتابة الذاتية والخارجية، وهي تمارس دورها النقدي بخصوصية، بها تناوئ المعتاد من المناهج النقدية معبرة عن ذوتنة نسوية تريد أن تنفض تبعات أو تراكمات النظرة الفرويدية التي ضيقت من عدسة الرؤية للمرأة ككاتبة وحالت دون أن ينتصر وعيها على الكتابة الذكورية بمستوياتها كافة. والمميز حقا أن الناقدة العربية امتلكت فردانيتها وهي تمارس النقد بروح نسوية تنتقي وتتحرى وتتفرد من قبل أن تصل إلينا طروحات النظريات النسوية الغربية، ممتلكة دورها الخاص متناوبة نقديا في الكتابة مع الرجل وبغيتها الاسهام في صياغة الخطاب النقدي العربي المعاصر الذي ما زال يخضع لتبعية ذكورية وهو يتعامل مع النقد النسوي نظرية ومنهجا وترجمة واصطلاحا. وإذا أدرك الناقد العربي هذه المسألة كما أدركتها الناقدة العربية، فعندها سيتضافر عملهما النقدي مستقبلا تفاعلا ومشاركة، وقد نتوصل إلى حلول ناجعة تخرجنا من دوامة الأزمة النقدية العربية.

مشاركة :