المُستقبل طفل بين الحياة والموت

  • 4/24/2015
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

منذ هجرة مخرجين إيرانيين معروفين بعضهم من أبرز سينمائيي بلدهم، إلى وجهات مُختلفة في العالم والتي حدثت على مراحل في السنوات الخمس الأخيرة، وإنكفاء مخرجين آخرين في بيوتهم بسبب عقوبات طاولتهم لمواقف سياسية مناهضة لنظامهم السياسي، ثمة فراغ واضح خلفه غيابهم في سينما هذا البلد. صحيح أن جميع المخرجين المهاجرين لم يتوقفوا عن العمل السينمائي لكن في أفلام بقصص ولغات أخرى (عباس كيارستمي، اصغر فرهادی، محسن مخملباف على سبيل المثال)، إلا أن السينما تفتقد منذ بضع سنوات الأفلام الكبيرة المصنوعة في إيران ذاتها، إذ ما زال فيلم «الانفصال» لاصغر فرهادی من عام 2011، آخر التحف التي منحتنا إياها تلك السينما الخاصة. إمارات نهضة ما... ولكن مؤخراً بدأت بشارات موجة سينمائية إيرانية جديدة، يقودها ما يُمكن أن يُشكل الجيل الثالث أسلوبياً في السينما الإيرانية الحديثة، إذ عُرض في الدورة الأخيرة لمهرجان اسطنبول السينمائي، فيلمان مُهمان من البلد الذي تحيطه دائماً الألغاز والمتاعب. ينحصر زمن أحداث الفيلمين الإيرانيين: «ملبورن» لرضا ميركريمي (عرض في برنامج رؤى جديدة، بعدما كان قد نال الجائزة الكبرى في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة قبل شهور) و «اليوم» للمخرج نيما جويدي (عرض في مسابقة أفلام حقوق الإنسان) في يوم واحد. لكن أزمات أبطال قصتي الفيلمين والتي يقترب بعضها من الكوابيس، جعلت هذا اليوم يبدو وكأنه الأبدية. هناك في الفيلمين طفلان ولدا للتو. وإذا كان حضور الطفل في فيلم «اليوم» لا يخرج عن الترميز البديهي الذي يجعل ولادة الطفل في نهاية الفيلم، وكأنها بداية لحياة جديدة، إلا أن الطفل نفسه في الفيلم الثاني، والذي تطلق حادثة موته المفاجئ شرارة الدراما الشديدة القسوة، هو كناية قانطة عن المستقبل الذي ولد ميتاً، وأن لا أمل على الإطلاق من عبور الحياة بدون جروح أو خدوش، كما أن النيران تطاول بلهيبها حتى الذين كانوا يقفون على الحياد واختاروا التفرج عن بعد على ما يجري. تذكر بداية فيلم «ملبورن»، بتلك لفيلم «عن إيلي» لاصغر فرهادی، ربما بسبب الممثل المتميز پيمان مُعادی، الذي يلعب البطولة في كلا الفيلمين، وأيضاً لانتقالات الكاميرا المحمولة اللاهثة خلف الشخصيات، ونُذر الفاجعة القادمة التي تلوح فوق الجميع. الفيلم الجديد عن زوجين يستعدان للسفر في غضون ساعات قليلة إلى مدينة ملبورن الأسترالية بعد أن حصلا على منحة دراسية هناك. مبكراً كثيراً في زمن الفيلم، يكتشف الزوجان الشابان أن الطفل الذي تركته الجارة معهما لبضع ساعات، فارق الحياة. عندها يبدأ عالم الزوجين بالتقوض، فمن جانب تفصلهم ساعات عن «حياة جديدة»، في الوقت الذي يبدو موت الطفل الغامض وكأنه تذكير بأن الخراب سيتبعهم أينما توجهوا. تفتح الحادثة الفيلم على أسئلة عديدة، كما ستكون مناسبة للمرور على شخصيات إيرانية أخرى آتية من خلفيات اجتماعية وبمتاعب مُختلفة. عندها ينضم الفيلم إلى الأعمال ذات الهَمّ النقدي التشريحي الاجتماعي، وإن كان ثقل موت الرضيع سيهيمن على روح الفيلم بالكامل. فالمشاهد التي قدمت ذلك الطفل مُلقًى على بطنه ميتاً في غرفة بأثاث بسيط، هي ربما واحدة من أشد مشاهد السينما الحديثة قسوة. بيد أن الفيلم عانى كثيراً بتقديم تفاصيل توازي نفسياً تلك الحادثة، كما لم يغص الفيلم بالقدر الكافي في طبيعة العلاقة بين الزوجين، فلم يتبلور في هذا الاتجاه تطور درامي مناسب يتفاعل مع الحادثة، وحتى عندما فشل الزوج في إخبار محيطه ومن ضمنهم والدا الطفل بما حصل، لم ينم هذا باتجاه مُحاسبة مُعمقة أو تحليل جديّ عن الأسباب التي جعلته يكذب. رغم ذلك هناك الكثير المُحكم في هذا الفيلم، وخاصة في مشاهد الذهول التي أصابت الزوجين، والتي بدت أكثر فعالية من مشاهد النقاشات والحركة، التي غاب عنها النفس التشويقي والكشف التدريجي عن ما تحت الطبقات الخارجية للشخصيات. سائق تاكسي إيراني من ناحيته، يدخل فيلم «اليوم» منطقة مُحرمات إيرانية شائكة، بثقة لافتة. هو عن علاقة خارج التعريفات الشائعة تنشأ بين سائق تاكسي تجاوز الخمسينات من العمر وامــراة تحمل ابناً غير شرعي استقلت سيارته في طريقها إلى المستشفى. لسبب ما غامض، يعجز سائق التاكسي أن يترك تلك المرأة لحالها بعد أن أوصلها إلى هناك، فيبقى قريباً منها ومن المستشفى ليوم كامل وحتى النهاية التي جاءت مأسوية. وإذا كانت الحركة والانتقالات التوليفية السريعة لم تتوقف في فيلم «ملبورن»، فإن فيلم «اليوم» تميز بسكونه وتأملاته. هو فيلم مناخات عن المدينة وحياة ناسها. بالإضافة للشخصيتين الرئيسيتين، ستمر في الفيلم شخصيات أخرى، منها عاملات في مستشفى التوليد، لتكون هذه الأخيرة، الشاهد على واقع مخفي لنساء إيرانيات يجبرن على وضع أطفالهن في السر، بسبب مخالفتهن للسائد الاجتماعي والديني. لا يقدم الفيلم قصصاً خلفية عن شخصيتيه الرئيسيتين، في المقابل ينشغل بالتفاصيل الشكليّة والدرامية التي تبعد تينك الشخصيتين عن التنميط، وتدفع إلى التفكير في حياتهما والطريق الذي قادهما إلى هذا اليوم بالتحديد. فالمرأة بجمالها المتوسط هي بعيدة كثيراً عن مفاهيم الغواية الشائعة. لتثير العلاقة التي ربطتها بوالد طفلها المجهول أسئلة عن الخطأ والصواب الاجتماعي والكبت الجسدي النسوي والمصائر المُعتمة لنساء يمررن بتجارب مشابهة. إذ تبدو البطلة وهي تتجه وحيدة إلى المستشفى وكأنها ذاهبة إلى حتفها. في المقابل يحيط الغموض الكبير الشخصية الأخرى (سائق التاكسي)، فلن نعرف له قصة. في أحد المشاهد الافتتاحية، وقبل أن يصل الفيلم إلى المرأة الحامل، يطرد البطل زبوناً كان يتحدث برعونة من هاتفه النقال. هل هذا يشير لموقف أخلاقي ما ونبل وشجاعة مفقودين في حياة المدن الكبرى؟ ربما... لكن سيارة التاكسي هي بالتأكيد مملكة الرجل الوحيدة والأخيرة. وبعد أن تهاوت عوالمه الأخرى. هو يشبه «ترافيس بيكل» سائق فيلم مارتن سكورسيزي الشهير، لجهة أنه مُنتج للزمن والأحداث التي سبقته وأثرت فيه. هناك إشارات عن الحرب العراقية الإيرانية، فهل البطل مرَّ في تلك الحرب؟ لن نعرف أيضاً إجابة لهذا السؤال. لكن في المقابل ما نراه على الشاشة هو عودة ربما أخيرة لهذا الرجل المُتعب إلى الحياة وصراعاتها، وبعد أن وصلت الشيخوخة المُبكرة إلى جسده. حزن المدينة يشترك الفيلمان بقصصهما اليائسة ومقاربتهما القاتمة، والحزن الهائل الذي نسجت فيه عوالمها. هذا الحزن يأتي في الفيلمين من الخارج، من المدينة بالتحديد، التي لا تتوقف عن تذكير ناسها بالخراب الذي يحيط الجميع. لا شكوك بانتماء المخرجين الشابين إلى المدرسة الإيرانية السينمائية برموزها ومناخاتها وشاعريتها المعروفة، لكنهما يذهبان إلى خطوات أبعد في غوصهما في الحزن الفردي والجمعي، بشاعرية مُكثفة أحياناً، كالمشاهد التي قدمت بدون حوارات مثلاً، والتي كان يكفي فيها أن تنظر هذه الشخصية أو تلك إلى الكاميرا، ليتفجر حزن دفين ليس له قرار أو نهاية.

مشاركة :