موسم الهجرة إلى الجنوب

  • 9/2/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قد تكون محاسن صدف أو حكاية شعب، تلك التي أخرجت أمة من مراقدها، وفصائل من ثكناتها، وقوافل من سياقها، قد يكون «المهنيين الأحرار» مربط فرس في وادٍ أو بيت قصيد في ملحمة، لكنه الجزء الذي لا يتجزأ من «الحرية والتغيير» في السودان «السعيد»، هي الثورة، وهي الحركة، وهي الزمام الفياض بالاحتجاج والمعارضة، «المُحوج» بالأمل والرجاء، والملقن من ملائكة الرحمة أو «الكنداكات». ليس ميدانًا للقتال مثلما عودتنا «الخرطوم»، وليس صراعًا مع الجنوب على محصول موسمي أو على «شربة ماء»، لكنه الوعد الحق الذي آل شعب على نفسه أن يصل به في جميع المواعيد، أن يلبي طلبات تم تأجيلها لثلاثة عقود.. وأن يحقق أحلام أجهضها البائعون في أسواق الساسة والآيدولوجيات. أخيرًا وبعد ثمانية أشهر من الاحتكام لضفاف النيل البعيد، وبعد تجلي الجداريات المحمولة على جذوع الأشجار في الوادي العنيد، عاد الهدوء إلى الأرض السمراء، ابتلعت كثيرًا من التعب، وابتعدت لأول مرة عن أشباح الفشل الذريع وهي تطل على «المملكة القديمة» مع أشقائها في الشمال، صار موسم الهجرة إليها عن طيب خاطر، وليس رغم الأنف المناوئة للتبعية والانسياق، حملت معها بشارة الطيب صالح في رائعته التي لم تدفن معه، وأصبح الفيتوري بتراثه الوطني المكنون «كمثل حبة في الأرض أنبتت سبع سنابل»، وصار الهادي آدم ملهمًا للعشاق مثلما كان متنبئًا «بالخشية من الغد ويرجوه اقترابًا». تجارب الآخرين فشلت، حتى في شمالها الباحث عن «مَخرج»، وشرق البلاد وغربها، طولها وعرضها، جميعها قررت العودة إلى المربع الأول على رقعة شطرنج شوهتها الآيادي، وأذبلتها العيون، ربما هو الصمت الرهيب أو الشجن الموسمي ولوعة الغريب، وربما تسع سنوات على البعد من جثة «سيدي أبو زيد» البريئة في تونس..  الأكيد هو النجاة من مستنقع الدماء في اليمن وسوريا وليبيا، والأكيد هو الانتصار المحرم عليه غنائم اللحظة، وسبايا «البيادة» المستسلمة لديمقراطية «الكوتشي».  يخطئ من يظن أن السودان باتفاقه التاريخي لم يكن مستمتعًا بتغريدة خارج السرب، ويخطئ من يظن أن قواه السياسية وأبجدياته البديهية وأديباته الأسطورية لم تلعب دورًا حاسمًا في قلب موازين القوى لتميل إلى صالح شباب لم تعصمه تقاليد «الأمة»، ولم يرهبه دبيب «الأيدولوجيا»، ولم تثنه حالات الانفصال عن «الأطراف». جاء ديسمبر 2018 ليحمل معه أمطارًا ملتهبة، مؤسسة ونظام لا يستطيعان الوفاء بأي وعد، وجبهة إسلامية توارت تحت أقدام الخطاب الحماسي، ورجل بات أقل قدرة على مجاراة حركة التاريخ بعد رحيل «الترابي»، وانكشاف الغطاء عن «المرشد». «الحرية والتغيير» إئتلاف شبابي صاعد من رحم التجارب المتقاعدة. حزب الأمة يقاتل على جبهة مدنية الدولة من خلال «إمامه الأكبر»، وتماسيح نيلية تفترس ما تيسر من جثث غامضة كانت طافية على مسرح الأحداث، وأرواح شهداء تعود إلى ذويها آمنة مطمئنة. تمت إقالة البشير وجماعته، ظهر فرسان جدد من الجيش على المشهد الملتبس، عبد الفتاح البرهان الممثل الشرعي والوحيد للمجلس العسكري في المجلس السيادي «المُختار»، الفوز العظيم لـ «الحرية والتغيير» و«الموت الرحيم» لأفكار مناوئة حتى ساعات الوئام الأخيرة. رغم ذلك كانت الرحلات المكوكية لرموز «الضفتين»، الجيش والتيار المدني إلى القاهرة وأديس بمثابة المحاولة رقم 100 لرأب ما تبقى من صدع بين الفرقاء، حتى ظهر المنقذ الأثيوبي «أبي أحمد» بردائه السوداني الأنيق وهو يضمن الاتفاق التاريخي بقليل من الكياسة وكثير من الاصطياد في ماء عكر مع «الشمال». أخيرًا نجحت المواسم المغضوب عليها في السودان رغم فشلها فيما عاداها من دول عربية حاولت ولم تنل المراد، قاومت لكن قواها خارت قبل الأوان.  الآن السودان أمام ثلاثة تحديات والمجلس السيادي «المُعمر» لنحو 39 شهرًا لابد وأن يستمع جيدًا لمحاذير الصحفية المصرية أسماء الحسيني الملقبة في الخرطوم بـ«الشريفة أسماء» وفي القاهرة بالسيدة الحديدية وهي تتحدث في الصحافة والفضائيات عن مشكلات اقتصادية بالجملة وعقبات سياسية ما زالت ترعى تحت الرماد، وقوى خارجية على أهبة الاستعداد كي تسكب زيتًا على نار، أو ماءً غير صالح للشرب في أودية مسممة من أعالي البحار.

مشاركة :