طاهر زمخشري شخصية العام الأدبية التي يحتفي بها سوق عكاظ

  • 9/3/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

مثْل طاهر زمخشري الشاعر والإنسان، الشخصية الأدبية المحورية لـ مهرجان سوق عكاظ في دورته الـ13، ونظمت جامعة الطائف ندوة تحت هذا العنوان شارك فيها كلّ من محمد الشنطي الأستاذ الزائر بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، بورقة عمل بعنوان “طاهر زمخشري: ملامح تجربته الأدبية بين الإبداع والإعلام”، والناقد الأدبي حسين علوي بافقيه بورقة عمل بعنوان “طاهر زمخشري، صانع البهجة”، أعقبه الكاتب والمؤلف محمد توفيق بلو حفيد طاهر زمخشري بورقة حملت عنوان “محطات إنسانية في حياة الأديب طاهر زمخشري”، ثم الشاعر والناقد الأدبي معيض بن عطية القرني، بمشاركة نخبة من المثقفين والأدباء الذين أغنوا التكريم بمداخلاتهم وتساؤلاتهم. بين أعيان مكة حفيد “بابا طاهر” كما يحلو للسعوديين مناداته، والذي عاش معه لنحو 20 عاما تحت سقف بيت واحد بعد أن كفله وإخوته الخمسة من كبرى بناته سميرة إثر وفاة زوجها، تحدث لـ”العرب” عن عدد من الجوانب غير المعروفة في شخصية الشاعر الكبير التي عكف على دراستها، بعد أن ألّف حولها كتابيه “الماسة السمراء” و”الأديب طاهر زمخشري”. يقول بلو “لعبت البيئة التي ولد ونشأ فيها زمخشري دورا رئيسيا في تكوين اللبنة الأولى من شخصيته الفكرية والأدبية وحبه لبساطة العيش حيث وُلِدَ بوقف بيت الكاظلي في حارة الفلق، وهي من حواري مكة المكرمة القديمة، في أسرة من أسر مكة البسيطة، وقيل إن والده أطلق عليه في البداية اسم إبراهيم ولكن صديقه العلامة الشيخ محمد هاشم بن محمد الفوتي المالكي المدني المشهور بـ“ألفا هاشم” أشار عليه بتسميته طاهرا”. ويضيف بلو “انتقلت أسرته إلى بيتها الجديد في حارة القرارة بالمحكمة الشرعية بمكة المُكرّمة ونشأ فيه حيث كان والدُه يعمل حارسا للمحكمة، ومن مسؤولياته فتح مكتب رئيسها الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزّاوي وتنظيفه وملء الشِراب، فكان يرافق والده كل صباح، ليجلس على كرسي مكتب الشيخ قبل حضوره ويتقمص دوره، وعندما يأتي الشيخ ويراه على هذا الوضع ينهره مداعبا: ماذا تفعل؟ فيقول له “أريد أن أصبح شاعرا مثلك”، حيث كان الشيخ الغزّاوي من شعراء مكة المعروفين منذ العهد الهاشمي”. مرت الأيام على زمخشري وهو يلعب في المحكمة ويلتقي بكبار الشخصيات من أعيان وعلماء ومشايخ مكة الذين كانوا قضاة فيها أو يترددون عليها، ومن بينهم الشيخ ابن بليهد والشيخ ابن شلهوب، فحظي بحبهم وعنايتهم حين ظهر عليه من نبوغ مبكر ومن حب للعب والفكاهة، وكان لهم دور كبير في تكوين شخصيته الفكرية والدينية. ويتابع حفيد الشاعر الراحل سرد ذكريات جدّه، فيصف “كان لمدرسة الفلاح التي تخرج منها في العام 1929 دور مباشر في نبوغه الشعري وتنمية حسه الإنساني وإكسابه مهارة العمل، حيث بدأ حياته التعليمية بالكُتّاب كسائر أطفال مكة فالتحق بكُتَّاب الشيخ عبدالمعطي نوري بحارة الباب ومنه انتقل إلى مدرسة الفلاح عام 1918 التي كانت من أوائل المدارس الحديثة في الحجاز ومصنعا للفكر والأدب باعتمادها على أمهات الكتب الفقهية واللغوية والأدبية”. ويتابع “واجه ظروفا اجتماعية صعبة حينما انفصل والداه وانتقلت والدته للعيش في المدينة المنورة، وبالرغم من ذلك استطاع أن يتجاوز تلك الظروف بالرعاية والحنان اللذين حظي بهما من أهالي الحي والجيران على رأسهم بيت السيد عثمان بنا، والذين ربطته بهم أخوة رضاعة، وبيت السيد علي الكتبي. فاستطاع أن يكمل مسيرته التعليمية وبرزت موهبته في الخطابة والشعر”. راهب البريد لعبت عادات وتقاليد الزواج ومناسبات مكة دورا في جعله أحد أشهر شعراء المجسات الجدد، وحظي بعناية ورعاية مدير مدرسة الفلاح الشَّيخ عبدالله بن إبراهيم بن حَمَدُوه السِّناري الذي رشحه مع عدد من الطلاب للعمل في وظيفة مؤقتة لأول إحصاء سكاني في العهد السعودي لمكة، فقادته تلك الوظيفة إلى التعرف عن قرب على كبار أعيان وشخصيات مكة الذين ساهموا في تكليل مسيرته الأدبية بالنجاح، وعلى رأسهم الشيخ عباس قطان أمين العاصمة المقدسة آنذاك. ارتبطت حياة زمخشري العملية بالعديد من الجوانب الإنسانية التي قادته لتجسيد طموحاته وأحلامه، فبمجرد تخرجه من مدرسة الفلاح طلب منه والده الذهاب للعيش في المدينة المنورة للتعرف على والدته ورعايتها، فأقام معها وعمل مدرسا بأول دار أيتام في المملكة أسسها الشيخ عبدالغني داده، ومن خلالها التقى وتعرف بعدد من أدباء المدينة منهم المؤرخ الشيخ عبدالقدوس الأنصاري والأديب الأستاذ محمد حسين زيدان، وزاد عمله بدار الأيتام من رفع مستويات حسه الإنساني وتعلقه بالأطفال. وبعد فترة آثر العودة إلى مكة بعد أن عايره البعض على مجيئه للعمل في المدينة المنورة في الوقت الذي يتهافت فيه الناس إلى الذهاب للعمل في مكة، فغضب من ذلك وعاد إلى مسقط رأسه، حيث عيّنه الشيخ محمد سعيد عبدالمقصود خوجة في المطبعة الأميرية كمسؤول عن فرز البريد، وكان البريد عبارة عن مجلات وصحف قادمة من جمهورية مصر وعدد من الدول العربية، فاجتذبته كثيرا وأصبح ينهمك في القراءة على حساب مهام وظيفته الأساسية، ولأن الشيخ محمد سعيد خوجة كان يراه على هذا الوضع ويتركه منهمكا ويشجعه على ذلك غيّر مهامه إلى مصحح، ومن خلال ما نهله من قراءات تولدت لديه طموحات وأحلام كبيرة بأن يصبح أديبا ويلتقي بعمالقة الأدب المصريين. رُشح زمخشري، بعدها، للعمل في أمانة العاصمة كسكرتير للشيخ عباس قطان أمين العاصمة المقدسة آنذاك، وقادته هذه الوظيفة مع دعم وتشجيع الشيخ عباس قطان إلى تحقيق حلمه بالسفر إلى مصر والالتقاء بأدبائها وإصدار أول ديوان شعر له يطبع في تاريخ السعودية “أحلام الربيع”. قادته عاطفته الجياشة إلى الوقوع في عشق إحدى فتيات أسر مكة الأرستقراطية ورغب في الاقتران بها كشريكة حياة، لكن الفوارق الاجتماعية حالت دون ذلك، فكانت بمثابة جرح عاطفي أشعل شاعريته وإنسانيته، فقال بيته الشهير “حسبي من الحُبِّ، أنِّي بالوفاء له/ أمشي وأحمل جُرحا ليس يلتئمُ/ وما شكوتُ أنِّي إن ظلمت فكم/ قبلي من النَّاس في شرع الهوى ظلموا”. ورأى والده تزويجه من وسطه الاجتماعي فاختار له السيدة آمنه بنا التي اقترن بها وعاش معها في بيته بحارة الشامية بمكة، فغمرها بحبه المتدفق من فؤاده ووجدانه مُكنّا لها كل الوفاء على حبها الذي بادلته إياه، وشاء القدر أن يصطدم بمأساة لم تكن بحسبانه إذ أصيبت بمرض السل الذي أدى إلى وفاتها وهما في ريعان الشباب، وعبر عن ذلك في رثائه لها بقصيدة “يا ليالي” التي مهرها بقوله “أودعتها مقرها الأخير وتفرق المشيعون ووقفت مكاني أذرف هذه الدمعة”. وقد فارقت الحياة تاركة له مسؤولية رعاية بناته اليتامى الأربع اللائي خاطبهن بقصيدته “شاربات الدمع” التي مهرها بقوله “جثون حولي يذرفن الدمع السخين على والدتهن فأذرفت من أجهلن الدمعة، “يا بناتي وحسبكن شقاء أنني بينكن أبكي شبابي/ عجبا للزمان ينحر آمالي ويحث خطوة في طلابي”. ولم يكد يفق من هول تلك الصدمة حتى فجع بصدمة أخرى حينما ماتت محبوبته الأولى بعد 4 أشهر من وفاة زوجته، فأصبح قلبه يحمل جرحين عاش بهما طيلة حياته ولم يتزوج بعدها أبدا، ما جعله يطلق على نفسه شاعر الحب والحرمان، ورثاها بقصيدته “إليها” ومهرها بقوله “إلى التي ملأت حياتي شعرا وحبا ثم خطفها الموت”. ومما جاء فيها “هي كانت لي الجحيم ولكن كان بردا يزيد قلبي رواء/ هي كالشمس تملأ الكون نورا لم تلامس وإن أفاضت سناء/ ثم لما سعى المنون إليها جئت أرجو أن أكون الفداء/ هي كانت لي النعيم المرجَّى فأضاع المنون مني الرجاء”. مولد لقب "بابا طاهر" في الأثناء التي كان يعيش فيها أحزان وفاة زوجته ورعاية بناته اليتامى انبثقت له فرصة تحقيق طموحاته وأحلامه ليتسامى بها فوق آلامه وأشجانه، وذلك حينما اختاره الشيخ محمد سرور صبان وزير المالية آنذاك للانضمام إلى فريق تأسيس أول إذاعة في المملكة بالقلعة على جبل هندي بمكة في العام 1948 برئاسة الشيخ إبراهيم الشورى وعضويته والسيد هاشم زواوي، وأحمد السباعي، ومن حينها انطلق بمسيرة عمل إذاعي حافل جعلته أحد أهم رموز العمل الإذاعي في بلاده ببرنامجه الشهير “ركن الأطفال” وهو أول برنامج للأطفال في البلاد، واكتسب منه لقب “بابا طاهر” الذي أحبه وعاش به طيلة حياته، وكان البرنامج بمثابة حلم تحقق خفف عنه الكثير من الآلام التي كان يعيشها لاسيما وأنه لاقى نجاحا منقطع النظير قدم من خلاله العديد من المواهب والرواد في مجالات الأدب والإعلام والفن منهم عباس غزاوي، محمد سعيد طيب، محمد عبده يماني، الموسيقار جميل محمود، وكلل تلك المسيرة بإصدار أول مجلة سعودية للأطفال وهي “مجلة الروضة” في العام 1959 وبها ترسخ لقبه الشهير “بابا طاهر” وعدّ رائدا لأدب الطفل المعاصر في المملكة. وأما عن المرض في حياة بابا طاهر فيقول حفيده إنه مثّل في حياته “نقطة تحول قادته إلى إبداعات أدبية وفنية جديدة جعلته يتجاوز الآلام والمعاناة ففي مطلع الستينات، حين انتكس حلمه الكبير بتوقف صدور مجلة الروضة وتكبده خسائر مالية وتحمله لديون باهظة، فانهارت أعصابه ونقل إلى مستشفى شهار بالطائف ثم أمر الملك سعود بنقله للعلاج في مصر ومكث فيها 3 سنوات تلقى خلالها العلاج إلى أن شفي تماما واستأنف نشاطاته الأدبية والفنية مقدما ذروة إبداعاته الشعرية والفنية والإعلامية متنقلا بها بين المملكة ومصر ولبنان وتونس، فكللت تلك المسيرة بتقدير الجمهورية التونسية له بوسام الاستقلال من الرئيس الحبيب بورقيبه في العام 1966 ثم وسام الاستحقاق الثَّقافي التُّونسي بعدها”. وبعد مرور سنوات على ذلك العطاء داهمه مرض السكري ولازمه لسنوات جعلته في سباق مع المرض الذي تفاقم وأثر على صحته العامة، فأصيب بالفشل الكلوي وضيق في الشرايين، حتى أنه قال “أكل الداء بعض جسمي وأبقى ما أحمل به المآسي جليدا/ واعتلالي يشد حبل اصطباري واحتمالي يزيد فيّ الصمودا/ لا أبالي الإعصار من وطأة الداء ولو كان عاصفا عربيدا”. وبحكم المكانة والعناية التي حظي بها من الدولة أمر الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز بتحمل تكاليف علاجه، وخلالها تنقل بين لندن ولوس أنجلس والرياض. وفي العام 1986 مُنح زمخشري جائزة الدولة السعودية التقديرية في الأدب، في حفل بحضور الملك فهد وكبار المسؤولين، وقال بالمناسبة “أنا طاهر زمخشري المعروف كما قيل عني كومة من الفحم سوداء تلبس ثيابا بيضاء تقول شعرا قصائده حمراء وخضراء وصفراء، ومن قصائدي البيضاء أن أغني للحب وأن أغني للوفاء كما عشت أغني للحب والوفاء في مشواري الطويل. الآن خطوتي تلتوي وما عُدتُ أمشي. ولا أستطيع حتى القعودَ، ولكني مع ذلك جئت من تونس بإصرار لأشارك هذه الحفلة، ولألقي قصيدتي بإصرار، على الرغم من أنه اقترح عليَّ أن يُلقيها عنِّي أحد أبنائي المذيعين أو ابني فؤاد، فأصررتُ أن أغني لهذه الحضارة وأن أغني لهذه الحركة. قد لا تشعرون بها بالداخل، ولكني أعيش في تونس على صداها، بالفرحة على سريري الأبيض، وقد أعطتني الدفق، والحياة، والقوة، لأقف موقفي هذا وأنا مريض”. وأنشد قصيدته “يا أعذب الحب”. أعقب ذلك التكريم نيله العديد من الجوائز والتقديرات من أهمها الأسطوانة الذَّهبية من منظمة اليونيسكو، وتُرجمت بعض قصائده إلى اللغات الإنكليزية والألمانية والفرنسية بطلب من المنظمة. ويبقى زمخشري شاعرا بارزا وسط الحركة الشعرية العربية، تضعه في مصاف كبار الشعراء الكلاسيكيين العرب مثل الجواهري وبدوي الجبل وآخرين، وهو صاحب كلمات أول أغنية تسجل وتبث في السعودية وهي “يا فرحتي يا بهجتي/ البارحة عند الغروب” بمناسبة افتتاح بلدية الرياض، وهو الذي قدم واكتشف العديد من الفنانين من أشهرهم الموسيقار طارق عبدالحكيم، الموسيقار غازي علي، طلال مداح، محمد عبده، هيام يونس، ابتسام لطفي، هناء الصافي، عايدة بوخريص، وغيرهم، وصدرت له ستة دواوين شعرية من أشهرها “رباعيات صبا نجد”.

مشاركة :