كيف يمكن إنقاذ اللغة العربية من الدرك الذي وصلت إليه؟ وما السبل الناجعة التي يمكن للمعلم أن يتسلح بها لينقذ تلامذته من جهل بلغتهم بات محتما، إن بقي تعليم الضاد على ما هو عليه؟ لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة التي ندور في حلقتها المفرغة منذ عقود، وغيرها من المعضلات، انطلق صباح أمس، في المنامة: «مؤتمر القرائية للجميع»، بمشاركة أساتذة ومعلمين وخبراء تربويين ومسؤولين عن إدارة المناهج، والتطوير التربوي، وممثّلين عن جمعيّات ومؤسّسات ثقافية، ودور نشر عربيّة، وكتّاب، ورسّامين، وطلّاب كليّات المعلّمين، وذلك بدعوة من مشروع «عربي 21» الذي أطلقته مؤسسة الفكر العربي منذ سنوات، و«الجمعية العربية للقراءة» (تارا) ومقرها البحرين، برعاية الشيخ عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة، رئيس مجلس أمناء وقف عيسى بن سلمان التعليمي الخيري، وحضور الدكتور ماجد بن علي النعيمي وزير التربية والتعليم نيابة. والمؤتمر في كل جلساته، كما في ورش عمله المتخصصة التي تصل إلى أكثر من عشرين ورشة، يركز بشكل أساسي على شرح منهج «القرائية»، لتعليم العربية الذي طبق على كثير من اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية منذ ثمانينات القرن الماضي، فيما لا تزال العربية تدرس بطرق تقليدية. ومصطلح قرائية يعني «العودة إلى النصوص على مختلف أنواعها بما فيها العلمية والتقنية وحتى نصوص الإعلانات وغيرها، كمنطلق لتعويد التلميذ على الاستخدام الصحيح والبليغ للغته، ومنها يستنبط تدريجيا أصول القواعد، وليس العكس». وبقي المصطلح غامضا بالنسبة للكثير من المعلمين الحاضرين، الذين تمنوا أن يتوضح الأمر خلال الجلسات المقبلة التي تمتد على مدار هذا اليوم، السبت، وتتضمن حلقات نقاشية ومحاضرات ومداخلات، تدور حول «القرائية وأدب الأطفال»، «النص المعلوماتي في التعليم الابتدائي»، «القرائية العربية متعة المتعلم»، «استراتيجيات حديثة في تعليم اللغة العربية»، «الذكاء العاطفي في صف اللغة العربية»، «أدب الطفل طريق لتصحيح أوضاع اللغة العربية»، وكذلك هناك عرض لتجارب في مجال التعليم تم اختبارها، من خلال مداخلات عن «نشر القرائية في اليمن»، وتقديم «تجربة واقعية في التعليم المبني على المعايير». وكانت مريم الهاشمي، المشرفة على تطوير المناهج في عدد من مدارس أبوظبي والعين، قد تحدثت يوم أمس، عن محاولة لتطبيق القرائية في الإمارات أتت بنتائج مهمة، لكنها توقفت بسبب ضرورة الالتزام بالمنهج التقليدي، مما يعني أن التغيير يتطلب تعديلا على المسار العام للتعليم، وليس على بعض المدارس دون غيرها. وركز المؤتمر أيضا على «وحدة المعايير». أي الاتفاق على معايير عربية، وتحديد المكتسبات التي يجب أن يحصلها الطالب في كل صف، كي تتحقق العدالة التعليمية لكل الأطفال بصرف النظر عن مستواهم الاجتماعي، أو جودة المدرسة التي يتعلمون فيها. ولم تكن كلمات الجلسة الافتتاحية رسمية بقدر ما حاولت أن تدخل في صلب الموضوع. وتحدثت في البدء، المشرفة على المؤتمر، القائمة بأعمال عميد كلية البحرين للمعلمين د. هنادا طه، وهي أيضا مديرة مشروع «عربي 21» وممثّلة «تارا»، مؤكدة أن المؤتمر يأتي تكريسا لأهمية مفهومِ القرائية في اللغة العربية، وهو مصطلح حديث نسبيا ونعني به القدرة على فهمِ الكلماتِ وفهمِ العالم. وعرضت لمفهومين أساسيين مرتبطين بتطويرِ تعليمِ اللغة العربية وتعلّمِها، الأول هو أهمية تبنّي فلسفة تعلّمِ اللغة المبني على المعايير، ذلك أن فلسفة المعايير الموحّدة تعني أنّه باستطاعة كلِّ طالبٍ التعلّمَ والتمكّنَ من المعايير، بغضّ النظر عن خلفية أسرتِه المادية والثقافية ومدرسته، وغيرِها من عواملِ الفرزِ التي يعاني منها طلابُ الوطنِ العربي، فضلا عن أنه يوحّدُ المفاهيمَ الأساسية، بحيث نعطي أبناءَ اللغة العربية لغة موحَّدة وموحِّدة ومعارفَ وُمفاهيمَ أساسية ترتبطُ بعصرِهم لا بعصرِنا، وبحاجاتِهم لا بحاجاتِنا. ثانيا وجود ضرورة قومية الآن لتغييرِ «الدور» الذي تلعبُه اللغة العربية في حياتنا، فدورُ اللغة ليس انكفاء على دراسة ما هو «غير طبيعي» كالصرفِ والنحوِ والبلاغة، وإنما هو انغماس في الدورِ الطبيعي للغة، وهو تسخيرُ اللغة لفكِّ رموزِ الكلامِ ولفهمِ العالم من حولِنا، وبالتالي يتغيّرُ «الدور» الذي تلعبُه اللغة لتصبحَ الأداة التي بها نمكّنُ المتعلّمَ من الإطلالة على عوالمَ مختلفة وشاسعة. ثم ألقى الوزير ماجد بن علي النعيمي كلمة، فيها على أهمّية اللغة العربية في حفظ هويّة الأمّة ولونها الثقافي، وفي بناء الشخصية العربيّة الأصيلة المعتزّة بأمّتها وثقافتها، تحدث بإسهاب عن استراتيجية القرائية المتكاملة التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم في مملكة البحرين، وذلك من أجل النهوض باللغة العربية وتعليمها. وعرض النعيمي لجهود البحرين في مجال تطوير تعليم اللغة العربية، والتي تتمثّل فيما تقوم به وزارة التربية والتعليم من تطوير مستمرّ لمناهجها، وتدريب نوعي لمعلّميها، ومتابعة إشرافية ورقابية لتعليمها في جميع المدارس الحكومية والخاصة، وعناية بتعليمها للناطقين بغيرها، وذلك من منطلقات قومية ودينية وتربوية واجتماعية، وتقييم مستوى الأداء اللغوي عن طريق الامتحانات الوطنية والمشاركة في الاختبارات الدولية. وفي الجلسة الافتتاحية أيضا، ألقى الشيخ د. خالد علي التركي كلمة باسم مؤسّسة الفكر العربي نيابة عن رئيس مجلس إداراتها الأمير بندر بن خالد الفيصل، وأشار إلى أن المؤتمر يركّز على مسألتين في غاية الأهمية، الأولى تتعلّق بمفهوم تعليم وتعلّم اللغة العربية المبني على المعايير، وهو مفهوم يعدّ سبقا في مجال تطوير تعلّم وتعليم اللغة العربية. ثانيا يتميّز المؤتمر بفكرة العمل المؤسّساتي المشترك من أجل هدف نبيل وملحّ، وذلك من أجل حشد الرؤى وتوضيح الممارسات العالمية الناجحة لتكون نواة للعمل على رؤية جديدة لتعليم وتعلّم اللغة العربية. بعدها احتفت المؤسّسة بالفائزين بـ«جائزة كتابي 2015» لأدب الطفل العربي في دورتها الثالثة، وسلّم وزير التربية ماجد بن علي النعيمي الفائزين والمتحدّثين والرعاة دروعا تكريمية. والفائزون هم: رنا عناني، هدى حدادي، هديل ناشف، أسامة مزهر، مهند العاقوص، طيبة عبد الله، سمر محفوظ براج، منى يقظان، ميرا المير، شهاب الدين المشرّف، عاصم إبراهيم، فضلا عن الممثّلين عن دور النشر التالية: دار كلمات، دار العالم العربي للنشر والتوزيع، دار البراق لثقافة الطفل، دار الساقي، هدهد للنشر. ثم قدّمت الكاتبة رنا عناني قراءة من كتابها الفائز «صاروخ إلى الفضاء». وبدأت الجلسة الأولى للمؤتمر بحلقة نقاشية تحت عنوان «تعلّم اللغة العربية المبني على المعايير»، شارك فيها كلٌ من الدكتورة سالي التركي، والدكتورة هنادا طه ومريم الهاشمي وبول تاكر. وجدير بالذكر أن المؤتمر يستمر ليومين، ويحاول منظموه الدفع باتجاه تشجيع استبدال النهج الكلاسيكي المتبع عربيا بـ«القرائية» من خلال شرح مزاياها، وسبل تطبيقها.
مشاركة :