تمنى الشاب محمود النجار كغيره من أقرانه حديثي التخرج الحصول على وظيفة مرموقة عقب حصوله على بكالوريوس التجارة وإدارة الأعمال من جامعة حلوان، وهو الأمر الذي تحقق بانضمامه لإحدى الشركات الكبرى، ليترقى خلال فترة وجيزة بين المراتب الوظيفية بسب حماسه وكفاءته في العمل مما رشحه لتولي أعلى المناصب. ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، ففي أحد أيام صيف 2012، سافر «النجار» برفقة أصدقائه لقضاء العطلة الصيفية داخل إحدى قرى «العين السخنة»، ولم يكن في حسبان الشاب العشريني أن قفزة خاطئة داخل حمام السباحة ستقلب حياته رأسًا على عقب، وذلك بعدما تسببت في إصابته بألم مزمن في الفقرتين الرابعة والخامسة العنقية بالإضافة لقطع في الحبل الشوكي، ليؤدي ذلك كله لإصابته بالشلل الرباعي. ليبدأ بعدها «النجار» رحلة مريرة بين مستشفيات وعيادات أكبر أطباء المخ والأعصاب، والعظام، وحتى العلاج الطبيعي وذلك أملًا في السير مرة أخرى على قدميه، واصفًا هذه الفترة بالمريرة خلال حديثه لـ«المصري لايت» بقوله: «رفضت تقبل فكرة أن أكمل حياتي على كرسي». أمل السير على قدميه مجددًا والذي راوده بسبب عدم تشخيص الأطباء لحالته بشكل صحيح دفعه لأن يقطع أكثر من 3 آلاف كيلومتر، بين القاهرة وألمانيا بعد أن نصحه أصدقائه للسفر للخارج لعرض حالته الصحية على أكبر أطباء العالم، ولم يترك النجار طبيبًا هناك إلا ودق بابه، ولكن أماله اصطدمت بالواقع في ميونخ بعد أن أخبره أكبر استشاري العالم بأنه لن يستطيع السير مجددًا «كانت صدمة حياتي». ويروي «النجار» أنه بمجرد عودته للقاهرة كان لا يقوى على مواجهة نظرات الشفقة التي يرشق بها المارة ذوي الإعاقة لذلك لم يكن ليقبل فكرة أن تصاحبه ممرضة أو جليس لتلبية طلباته: «حالتي النفسية كانت مدمرة ورافض أن حد يشوفني أو أشوف حد»، لتسهر والدته على راحة فلذة كبدها، مواصلة الليل بالنهار لتوفير كل ما يتمناه: «أمي اتعلمت كل مهارات التمريض عشان تخدمني». كل ما حصل عليه «النجار» من حب ودعم أفراد أسرته بالكامل، بخلاف ما قدمته له والدته أعاد له ثقته بنفسه من جديد، ليقرر الشاب طوي تجربته الأليمة للأبد وأن يأخذ منها قوته لمواصلة طريقة نحو ما كان يطمح إليه قبل إصابته: «كان لازم أتقبل نصيبي وأحقق حلمي وأبقى رمز وأمل لكل أصحاب الإعاقات». واستأنف «النجار» حياته الاجتماعية بالعديد من المحطات، بدأها بمواصلة رحلاته التي كان يقوم بها قبل الحادث، وزار محافظات لم يكن زارها من قبل، إلى جانب عودته مرة أخرى لعمله بعد تركه لفترة قاربت على العامين، بالإضافة لرغبته في التعرف على الأصدقاء. «القدر اللي خلاني جليس الكرسي هو نفسه من أهداني شريكة عمري وحب حياتي الوحيد» بهذه العبارة روى «النجار» قصة تعرفه على حبيبته التي تزوجها في مرحلة لاحقة، إذ يدين لها بـ حياته على حد وصفه: «تعرفت عليها خلال جلسة أصدقاء مشتركين ليا وليها وأعجبت بها ولكني لم أتجرأ لأصارحها بذلك». ويفسر «النجار» سبب عزوفة عن مصارحته للشابة بمشاعره نحوها: «مكنتش حمل أني اتصدم تاني»، مضيفًا أن أسرته لم تكن لتوافق خوفًا من رفض العروس وهو ما سيؤثر بالسلب على صحته النفسية، متابعًا بأنه بمجرد التأكد من مبادلتها له نفس الشعور بعد أن أغرمت بسماته الشخصية إلى جانب طموحه وثقافته. قصة الحب التي عاشها «النجار» مع «ندى» التي أقنعت والديها برغبتها الزواج منه واستكمال حياتها معه لاعتبارها الإعاقة الحقيقية تكمن في العقل على حد وصفها كُللت بعقد قرانهما، بعد أن تقدم «النجار» لخطوبتها: «حديثها مع أهلها وتصميمها عليا قصر كل المسافات إلى جانب إثناء أهلها عليا بعد ما اتعرفوا عليا». وتجل أحد مشاهد الفيلم الأمريكي «مي بيفور يو» الذي قامت ببطولته الممثلة الشهيرة «إميليا كلارك» خلال حفل زفافهما بعد أن حمل «النجار» زوجته على الكرسي ليرقصا سويًا: «كانت لحظة من أسعد لحظات حياتي»، مضيفًا بأن فرحته بهذه اللحظة تضاعفت بعدما ألتفت خلفه ليجد أن والدته تشاركه الرقص مع عروسته بدفعها لكرسيه: «معرفتش احبس دموعي من الفرحة لما شوفت أن أمي هي اللي بتحرك الكرسي.. لحد أخر لحظة مش سايباني». وعقب دخوله قفص الزواج، تغيرت حياة «النجار» بعد أن اصبحت تشاركه زوجته تفاصيل يومه والتي يدين لها الشاب بفضل كبير عليه لدعمه له منذ معرفته بها: «حب زوجتي ليا هو تعويض ربنا ليا على اللي حصلي»، مضيفًا بأنه يمارس حياته معها بشكل طبيعي كأي زوجين: «بنخرج وبنسافر وبنتصور.. والناس منبهرة بقصة الحب اللي بينا». ويقدم «النجار» الدعم لذوي الإعاقة في مصر والوطن العربي وذلك من خلال كتابة المنشورات التي يشاركها مع متابعيه على حسابه الرسمي على موقع «فيس بوك»، بالإضافة لحرصه على المشاركة في الجلسات التحفيزية التي تنظمها المؤسسات الداعمة لأصحاب الإعاقة: «مؤسسات دعم المعاقين تضرب بيا المثل كمثال محفز للعادين قبل المعاقين.. ودايمًا بقدم الدعم لأي حد محبط وحاسس أنه مش هيقدر يحقق حلمه بسبب إعاقته». تغيرت نبرة صوت «النجار» ليخيم عليها الحزن والأسى خلال حديثه لـ «المصري لايت» ليروي لنا معاناة أصحاب الإعاقات بمصر، وذلك لعدم تحرك المجلس القومي لشئون الإعاقة لتذليل العقبات التي تواجههم رغم حصولهم على العديد من الوعود لحلها: «المواصلات العامة بما فيها محطات كتير جدًا في المترو مش معمول حساب لكيفية استقلال المعاق لها دون مساعدة، بخلاف أني معرفش أطلع رصيف من غير ما حد يشيلني بالكرسي لأن مفيش مطلع». ويعكف محمود النجار خلال الفترة الحالية على دراسة المنحة التي قدمته له الجامعة الأمريكية في مصر من أجل تحضير الدكتورة في تخصص دراسة وتحليل البيانات، إلى جانب مواصلته للتقدم في مجال عمله وتبوئه لمركز ذات نفوذ بقسم المتابعة بمجموعة شركات «سيجما» الإعلامية، إلى جانب تخطيطه لتأسيس مؤسسة لدعم ذوي الإعاقة في مصر. ويختتم الشاب الذي استطاع تغلب على مأساته بتوجيه نصيحة لكل فاقدي الهمم الذين يعلقوا عدم تحقيق أحلامهم على شماعة الظروف قائلاً: «الإعاقة هو أنك تفقد الهمة في تحقيق أحلامك غير كدة مهما كانت الظروف أنت غير عاجز وتقدر»، ضاربًا المثل بعالم الفيزياء الشهير «استيف هوكنز» الذي أكتشف الثقب الأسود إلى جانب إسهاماته الجليلة في العلوم الكونية، إذ لم تمنعه إصابته بتسلب الشرايين عن النجاح في حياته.
مشاركة :