بنات أفكار شفاء هادي.. بنات العراق المشتهى

  • 9/10/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لم تكن البيئة معطى جغرافيا يتشكل من الطبيعة والعناصر الاجتماعية فحسب، إنما هو علاقة نفسية مباشرة بين مكوناته المختلفة، وهو هضم متواصل لتلك العناصر والمكونات بغرض إعادة إنتاجها أفكارا جديدة بمشروع فني يتخطى زمنيته إلى أبعد منها، مشيرا إلى وعي آخر فيه من النضج ما يكفي أن يكون دالّا لمدلول اجتماعي ومكاني وزمني في تركيبته الأخيرة. ولعل الفن التشكيلي يستطيع أن يتمثّل هذا الهضم الفني والتعبيري بأساليبه الفنية وقدرته على الإمضاء التعبيري في معالجة ثنائية الواقع والخيال. مثل هذا الهضم الفني جسّدته التشكيلية العراقية شفاء هادي في معرضها البغدادي الأخير الذي حمل عنوان “بنات أفكاري” ليكون العنوان دلالة نفسية تؤكد العلاقة الشخصية بالمكان، وهي تعيد إنتاجه لونيا بريشة متحركة اهتمت كثيرا برسم الشخصيات الاجتماعية من قرويين وفلاحين وبنات وصبيان. مع استذكار واختيار عناصر المكان التي ركزت عليها بتقنية اللون والتجريد أيضا، كالأسماك والمسبحة والسجادة والمغزل والثياب والحمامة والزوارق النهرية والماء والنخل والخلخال والأقراط والزي الشعبي. انقسم المعرض الشفائي إلى زاويتي نظر تفترقان في المكان وتلتقيان في الفن وجمال الخيال فيه. فالمعطيات الريفية والقروية أشارت إلى مكان جنوبي له فرادته وطقوسه وانفتاحه في الفضاء الفني، بينما أشارت المعطيات الأخرى إلى المكان البغدادي الطفولي وتوابعه الكثيرة التي أغنتها الفنانة بالبحث اللوني الأكثر شفافية، لذلك نستشف علاقة الفنانة شفاء بالمكان عبر أفكار شخصية تشبه الولادات واحتضانها ضمن بيئة تكرّس مثل هذه الأفكار وترعاها، عبّرت عنها بـ”بنات”، ولذلك نجد في المعرض مفردات البيئة مع أشخاصها ضمن متوالية يومية شعبية وفولكلورية عبر حركات لونية غامقة أو ساطعة. تفترعها المرأة بأشكالها النفسية الواقعية والخيالية بإطار تنفيذ رسم مُمخّضة المكان وما فيه من سحر ريفي قروي، ومن معطيات جاذبة للبقعة الريفية المعتادة في الجنوب العراقي. يوازيها في الجمال المكان الطفولي البغدادي الأثير. ومع الواقعية بتعبيريتها الرصينة واشتغالاتها الفنية اللافتة بصريا، ومع التركيز على الحس القروي الريفي الملهم في أجوائها الخاصة، بدت الفنانة العراقية شفاء أكثر قدرة على تصميم المكان والنفاذ في جوهره الاجتماعي واختراق نسيجه الفردي والعام، لإعادة تشكيله وفق رؤية أكثر التحاقا بالفن وجمالياته من خلال الرصد الشامل لحركة الواقع وتشخيصه، وبالتالي أعطت للشكل الخارجي حركية جذابة ماهرة بفضل الاستخدام الأمثل للون والإكثار منه لتوطيد صلته البيئية والواقعية، محاولة أن تبتكر لها شكلها الذي يشير إليها من دون تأثيرات محتملة. وهي محاولة جريئة لفنانة مجتهدة لها بصمتها الخاصة في الحركة التشكيلية العراقية، ولهذا سمّاها الناقد ناصر شاكر الأسدي بـ“ظاهرة ثورية ساهمت في تفكيك الشكل السائد..”، وتحدث الناقد عبدالجبار خزعل عن جماليات الأشكال في لوحات الفنانة شفاء، فقال “تبدو الأشكال فيها منظورة بعين الواقع والخيال..”. وهذه المزاوجة الفنية برّرت طاقة اللون وسطوعه الحاد وشكل اللوحة الداخلي الذي ينتمي إلى عنصري الواقع والخيال. ومن الطبيعي أن يقول عنها الفنان التشكيلي المخضرم وليد نصرالله “في لوحتها نشيد لوني راقص”، هذا النشيد الطفولي المكتنز في ذاكرة الريشة واللوحة هو المَعْبَر الأخير لبيان جماليات الواقع القديم في رقصة المكان وبهائه. اشتغالات الفنانة شفاء هادي على الموضوعة الفولكلورية والشعبية والتراثية بغرض أسطرة الواقع أسلوبيا، جعلت لوحاتها ذات مرجعيات تكنيكية بإنشاءاتها اللونية الباهرة التي أغرقت أعمالها بأصغر وأدق التفصيلات، حتى لتبدو أن لوحتها عبارة عن لوحات متضامنة داخل الإطار لتشكّل بُعدها الأسطوري المحلي في تضمينها إكسسوارات أو مقطعات موازية للبناء الشكلي في معظم أعمالها، عدا المكان البغدادي الذي شاءت له أن ينعزل بألوانه الخافتة، لاسيما الأبيض و”الأزرق التركوازي” والأصفر الفاتح. وفي عموم هذه التجربة الفنية، تتميز الواقعية عند الفنانة شفاء هادي بأنها مصدر ومرجعية بيئية وذاكرة مكتظة بما هو جزئي في سحريته التعبيرية التي أتقنتها الفنانة أكاديميا بأسلوب عالي المستوى وتكنيك بارز في هذه الأفكار التي أنتجتها بقوة.

مشاركة :