كلنا راحلون يا أبا محمد

  • 9/11/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

سنوات من عمرنا تمر، وذكريات لا تُنسى وإن كانت قد أخذت مكانها الأثير في ذاكرة المرء.. هي الحياة التي جمعتنا من غير ميعاد وظروف لم نخطط لها أو نرسم لها طريقًا أو نحسب لها حسابًا.. إنها المقادير التي تُهيئ الظروف وترسم لنا السير على طرق معبدة أحيانًا وغير معبدة، لنشق الدرب بخطى قد تكون ثابتة أو متعثرة، لكنها تقودنا إلى حيث شاءت قدرة المولى أن نلتقي وربما نفترق.. كانت فترة السبعينات هي ميلاد حياتنا العملية بعد الدراسة في البحرين، والدراسة في الخارج، وتشاء الأقدار أن ألتقي بأخي الذي لم تلده أمي وصديق العمر الذي لم نحسب يومًا من الأيام أن نطوي هذه السنين دون أن نفترق أو نزعل أو تعكر صفو العلاقة بيننا منغصات الأيام، فقد كان الملتقى الأول في إذاعة البحرين بالعدلية، وتحديدًا في قسم الأخبار الإذاعية، حيث أتى المغفور له بإذن الله تعالى أحمد بن إبراهيم بن سعد المرشد من مهنة التدريس بوزارة التربية والتعليم، وجئت أنا من تلفزيون البحرين بعد أن تحوّلت ملكيته إلى وزارة الإعلام، وتوطدت العلاقة وترسّخت من زملاء وأصدقاء مهنة إلى علاقة صداقة ضاربة الجذور، جمعتنا زيارات أهلية في المحرق والبديع، وزيارات لصديق المهنة الإعلامية المغفور له بإذن الله تعالى عبدالعزيز عبدالله الخاجة رئيس الأخبار المحلية بوزارة الإعلام مساء كل يوم خميس في منزله بفريج الفاضل بالمنامة، إلى زيارات الأهل في الأحساء ودارين بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية الشقيقة، إلى زيارات إعلامية ضمن وفود إعلامية لتغطية الزيارات الرسمية للمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البلاد الراحل طيب الله ثراه، إلى زيارات حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه يوم كان وليًا للعهد، إلى زيارات صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزارء الموقر حفظه الله ورعاه إلى مؤتمرات القمم العربية ومؤتمرات مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومؤتمرات وزراء الإعلام العرب، والمؤتمرات والمعارض خارج وداخل البحرين.. صعب أن أحصر هذه العلاقة الأخوية في سطور قليلة، ولكن إضاءات الحديث عن ظروف مررنا بها أو مر بها الوطن أو مر بها أصدقاء أو زملاء المهنة تعطينا الانطباع بحميمية الصداقة الحقة المجرّدة من المنفعة والغايات الذاتية، ونحمد الله أن امتدت هذه الحميمية إلى الأهل والأبناء والأحفاد لنرى في وجوههم فرحة اللقاء كلما مرت بنا الأعياد، فكان يوم عيد الفطر أو عيد الأضحى هو من لوازم اللقاء، فأمر عليه بمنزله بمدينة عيسى، وبعدها يمر عليّ مع أولاده وأحفاده في منزلي، وكنا نعتبر هذا اليوم بمثابة الرباط الذي لا يمكن أن ننساه حتى وإن كنا في سفر، فلا بد من الحرص على اللقاء في هذا اليوم. المرحوم أحمد إبراهيم المرشد عشق الإعلام وارتبط بالإعلام كوظيفة وكجسر لعلاقات ممتدة ومتشعبة وقوية مع كل من التقى بهم، فكان الحريص على إقامة علاقات صداقة ومودة داخل البحرين وخارجها، وكانت عنده القدرة على اكتساب المعارف والإخلاص في تقدير معرفتهم والتواصل معهم، ولما جاءت وسائل التواصل الاجتماعي كان من أبرز النشطاء في هذا المجال، فكان التواصل معهم ليلاً ونهارًا في الحل والترحال، وكان يرحمه الله يفخر كثيرًا بمن يتواصلون معه ويسعد عندما يكون التجاوب بينهم وبينه. عندما كلف بإدارة قسم التصوير الفوتوغرافي بوزارة الإعلام حرص على أن يكون للوزارة الأرشيف المعتمد من الصور، بالإضافة إلى دقته في اختيار اللقطات المناسبة لتوزيعها على الصحف المحلية، وعندما تقاعد من الإعلام كان مشفقًا على هذا الأرشيف شعورًا منه بالكنوز والتواريخ التي يضمها هذا الأرشيف، واعتقد أن ذاكرة الوطن في العصر الحديث والمعاصر تتجسّد في هذا الأرشيف الذي تحتفظ به وزارة الإعلام في مملكة البحرين. في كل الوظائف الاستشارية التي تقلدها المرحوم في داخل الوطن وخارجه كان مخلصًا للمهمة التي أُسندت إليه، مع الحرص على التطوير وإثبات الذات المبدعة في كل عمل يسند إليه. كوّن صداقات ومعارف، فكان هو الإنسان الذي لا ينسى من جمعته بهم الحياة، فكان المتواصل معهم والساعي لتتبع أخبارهم وإنجازاتهم، وإذا احتاجوا إلى النصيحة فكان هو المُسدي لها والأمين على أن تكون فيها لهم المنفعة. عزيزي «بومحمد»، وداعك المفاجئ ورحيلك الهادئ في صباح يوم الأربعاء 3 سبتمبر 2019 ترك في نفوس أهلك ومحبيك وأصدقائك ومعارفك غصّة في الحلق وألمًا في الفؤاد لفراق عزيز أحب الناس فأحبه الناس، هناك من لم يصدق الخبر، وهناك من تمنى ألا يصدق الخبر، وهناك من لا يريد ألا يصدق الخبر، وهناك من لا يريد أن يتصور أن القضاء قد حل، أستغفر الله العظيم... هكذا يمضي المحبون، وهكذا نشعر بمحبة الناس لإنسان من طينة هذا الوطن، أحبه وأحب أهله وأحب من التقى بهم في الأسفار والأوطان الأخرى، فأخلص لهم.. فبادلوه إخلاصًا ومودة، رأيناهم في مقبرة المحرق يوم ووري جثمانه الثرى، ورأيناهم في مكان التعزية، وشعرنا بهم من خلال اتصالاتهم وتعازيهم المباشرة أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، ولسان حالهم يقول: لا يبقى من الإنسان إلا الذكر الحسن والطيب وحُسن المعشر والشعور الإنساني بالآخرين... «بومحمد»، سأفتقدك في الوطن وأفتقدك في السفر وفي المكان الأثير إلى نفسك، مصر العروبة التي عشقت ترابها وتعلقت بناسها وكتبت عنها الكثير، وعبّرت عنها لأصدقائك ومعارفك وعن حبك الدفين لمصر وأبنائها المخلصين.. كانت مقاهي سيدنا الحسين في أحد أحياء مدينة القاهرة ملتقانا الأسبوعي، وكان أصدقاؤنا من البحرينيين والعرب يعرفون مكاننا فيأتون إلينا ونتبادل معهم الحديث وذكريات الزمن الجميل. وكما جمعتنا البحرين في بداية تعارفنا، فقد جمعنا بيت سعادة السفير الشيخ رارشد بن عبدالرحمن آل خليفة سفير مملكة البحرين لدى جمهورية مصر العربية والمندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية عميد السلك الدبلوماسي في القاهرة الذي أشعرنا بمحبته وطيبته وإخلاصه لوطنه ولأبناء وطنه، فكان هو الإنسان بكل ما تحمله هذه الخصلة من معاني، فوقف معنا ولا يزال في التخفيف عن وحشة الغربة، وأشعرنا بأننا في بيتنا وبين أهلنا، ووقف موقف الرجال عندما علم بالمصاب الأليم، فكان وأركان السفارة بالقاهرة أول الواصلين، حيث شهدنا فراق عزيز من أبناء الوطن، واتخذ سعادته كل ما يلزم من إجراءات لإيصال الجثمان الطاهر إلى مثواه الأخير، وتسهيل كل السبل في وقت قياسي، مثبتًا الدور الوطني والإنساني لسفرائنا في الخارج، ووزارة خارجية مملكة البحرين بقيادة معالي الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة وزير الخارجية، ودور الوزارة في رعاية أبنائها في الخارج والسهر على سلامتهم وأمنهم واستقرارهم، فكان سعادة السفير «بوعبدالرحمن» ولا يزال المثال والقدوة، متعه الله بالصحة والعافية وأطال الله في عمره. «بومحمد» نم قرير العين، هانئ البال، فمحبة الناس واسمك في وطنك وفي أوطان أخرى سيظل ناصعًا.. نسأل الله أن يحفظ أهل بيتك ويصبرهم، وأن تصل أدعيتهم لك بالمغفرة والرضوان من الله جلت قدرته، وأن يواصل أبناؤك الطريق الذي رسمته في محبة الوطن وأبنائه والناس الذين يعيشون بينهم، فلك من أصدقائك ومعارفك الدعاء الخالص بالمغفرة والرضوان وجنات النعيم، وأعلم أخي أننا كلنا راحلون. وعلى الخير والمحبة نلتقي.

مشاركة :