ناقش أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الأسباب التي جعلت كثير من الناس يتمسكون بالاقتصاد في الحياة إلى حد المبالغة، ووصل بهم إلى البخل، وهو ما جعل المؤلف يخصص لذلك كتابًا بعنوان "البخلاء" يورد فيه قصصهم ونوادرهم، ويظهر فيه علل تمسكهم بالفقر وعدم التوسيع على النفس. وتعلل البعض بمذهبه في البخل بكونه يتمسك بأقوال الحكماء والصالحين وأئمة الهدى من الصحابة والراشدين، وهذا ما نجده في في رسالة سهل بن هارون إلى بني عمه من آل زياد حين ذموا مذهبه في البخل وتتبعوا كلامه في الكتب، فكان يذكر العيب ويرد عليه بأقوال السابقين الداعمة لمذهبه، وآخرين اعتبروا أن الإسراف في القليل يؤدى إلى الكثير فإن التفريط في الدرهم يؤدى للتفريط في العشرة آلاف درهم، وللحفاظ على الرقم الكبير لا بد أن يبدأ بما هو أقل من الدرهم، وبعضهم اعتبر الإسراف داء، والداء يؤدي إلى الهلاك والموت، وقد حثنا الشرع الحنيف على عدم إلقاء النفس في التهلكة، وسرد الجاحظ حجج البخلاء في الكتاب بمزيد من القصص الطريفة والجميلة. وذم الجاحظ البخل في كتابه، وذكر المرويات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذم البخل ووصفه وعيبه والتحذير منه، حيث قال "ص": إياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالكذب فكذبوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا"، وعنه أيضا: "شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع". ومن القصص الطريفة التي تظهر مدى اقتصاد البخلاء، ومدى تمكنهم من تعليل أفعالهم، أن شاعرًا امتدح والي خراسان بقصيدة عصماء، فلما فرغ قال: قد أحسنت، ثم أقبل على كاتبه فقال: أعطه 10 آلاف درهم، ففرح الشاعر فرحًا قد يستطار له، فلما رأى حاله قال: وإني لأرى هذا القول قد وقع منك هذا الوقع.. اجعلها عشرين ألف درهم، فكاد الشاعر يخرج من جلده، فلما رأى فرحه تضاعف قال: وإن فرحك ليتضاعف على قدر تضاعف القول، أعطه يا فلان أربعين ألفًا، فكاد الفرح يقتله، ثم إن كاتب الوالي أقبل عليه فقال: سبحان الله! هذا -أي الشاعر- كان يرضى منك بأربعين درهمًا، تأمر له بأربعين ألف درهم! قال الوالي: ويلك! وتريد أن تعطيَه شيئًا؟ قال: وهل من إنفاذ أمرك بدّ؟ قال الوالي: يا أحمق! إنما هذا رجل سرَّنا بكلام فسررناه بكلام، وهو حين زعم أني أحسن من القمر، وأشد من الأسد، وأن لساني أقطع من السيف، وأن أمري أنفذ من السنان، هل جعل في يدي من هذا شيئًا أرجع به إلى بيتي؟ ألسنا نعلم أنه قد كذب؟ ولكنه قد سرنا حين كذب لنا، فنحن أيضًا نسره بالقول ونأمر له بالجوائز وإن كان كذبًا، فيكون كذب بكذب وقول بقول، فأما أن يكون كذب بصدق، وقول بفعل، فهذا هو الخسران المبين".
مشاركة :