«بخلاء الجاحظ».. الأدب يكشف أعماق المجتمع

  • 9/2/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ما هي العلاقة التي تربط صاحب البخلاء والحيوان، الأديب العربي العباسي الجاحظ، بأستاذ العربية والمؤرخ الهولندي رينهارت دوزي؟، وكيف يمكن للأديب المتوفى في 255 ه والمولود في بيئة حارة تتعالى فيها رؤوس النخيل حيث البصرة -مسقط رأسه-، أن يلتقي بذاك المؤرخ القادم من البلاد الباردة والمولود في القرن التاسع عشر قرب نهر متجمد في ليلة مثلجة. لا تبدو الإجابة سهلة، فالحكاية طويلة وشائكة ومثيرة إلى الحد الذي يمكنها أن تفسر راهن الثقافة العربية، وبلدانها اليوم، إذ تعود جذور العلاقة إلى عصر الاستشراق، حيث كانت رقعة الأرض العربية بكل ما تحمله وما تعود إليه من تاريخ قابعة تحت أيدي الباحثين، والمفكرين، والفنانين، والمؤرخين الأوربيين، لينتهي القرن التاسع عشر على خلاصات كافية لنكون ما نحن عليه اليوم. من هناك يمكن قراءة العلاقة بين الجاحظ ودوزي، إذ كان هذا المؤرخ الهولندي منشغلاً بدراسة تاريخ شمال إفريقيا والأندلس، ويؤلف كتابه المستدرك، وفي الوقت نفسه يربي أجيالاً من المؤرخين في هذا الحقل، فالشرق كان هذه الثقافة الشاسعة التي تحتاج إلى أجيال من المؤرخين للوصول إليه وأسراره، وهذا ما كان فعلاً، إذ تخرج من تحت يده أحد المؤرخين البارزين والمهتمين في الثقافة العربية الشرقية، الذي أخرج كتب عربية كثيرة من العتمة، إنه ميخيل يوهنا دي خويه، محقق كتب الجغرافيا العربية لليعقوبي، والبلاذري. لم تتشكل العلاقة بعد بين الجاحظ ودوزي، إلا أنها تنكشف عند الحديث عن الدور الذي لعبه تلميذه خويه، فهو الآخر تحمل مسؤولية التنقيب في الشرق، وراح ينشئ مدرسته، وينقل خبراته ومعارفه لأجيال من المؤرخين الذين سيكملون مشوار السير في صحراء الشرق الواسعة، فتتلمذ على يده المؤرخ الذي لولاه لغاب الكثير من منجز الجاحظ وتذكرناه على عجل كما نتذكر اليوم شعراء مثل السموأل، والمتلمس الضبعي، والخرنق بنت بدر، والمثقب العبدي وغيرهم من شعراء العصر الجاهلي. إنه المؤرخ فان فلوتن الذي أكمل مشوار دوزي الأول، وأنتج هذه العلاقة المتوارثة، لنصل إلى الجاحظ، ففولتن هو أول من حقق نص البخلاء، وقدمه إلى المكتبة العربية عام 1900م.يمكننا أن نتساءل الآن لماذا كتب الجاحظ كتابه البخلاء، وما الجدوى من جمع أخبار أصحاب النفوس الحريصة على التملك، أما كان أجدى له أن يواصل مشواره في كتب على شاكلة الحيوان، والبيان والتبين، وغيرها من المؤلفات؟ الإجابة حتماً ستكون نعم، كان ذلك أجدى، وذلك وفق الرؤية المدرسية الأكاديمية للأدب والفن، فالقيمة فيها محكومة بالمعلومة المضافة بصورة جاهزة، والدراسة المباشرة لأشكال الأدب في تلك العصور وتوثيقها، إلا أن الأديب العارف، والقارئ لفلسفة الأشياء والأزمان من قبله، يدرك جيداً أهمية البخلاء، ويدرك أن للنص مستويات للقراءة يمكنه فيها الانتقال من نص ساخر يثير الضحك، إلى نصٍ يشعل ثورة سياسية ثقافية كبيرة. لم يكن الجاحظ يدرك ذلك وحسب بل كان يعمل عليه بكد وجهد، إذاً ما الذي فعله الجاحظ في كتابه البخلاء؟ ذهب الجاحظ نحو حالة من التجرد في التعامل مع الحالة الإنسانية في مجتمعه، إذ أدرك أن العقل البشري تصنيفي بطبعه، يهنأ بالهويات التي تستظل تحتها المجاميع البشرية، وذلك كما نحن اليوم نصنع هوية الجماعات وفق الجغرافيا، والديانة، والمذهب، واللون، والعرق، وحتى الشكل. اختار الجاحظ هوية هي في الأساس سلوكية، أو اجتماعية، بمعنى آخر هي مقابلة لهوية الإنسان أين ما كان، فالبخل صفة بشرية، لا يمكن ربطها بجغرافيا، أو ديانة، أو عرق، أو لون، أو غيرها من الهويات الظاهرة. وكان بذلك حاذقاً في اختياره، ففيها يمكنه الوقوف عند شرائح المجتمع كلها من الأمير حتى المتسول في الزقاق، ويكون حراً في كشف عوالمهم، وأسرار شخصيتهم، من دون أن يثير غضب السلطة، أو يثير جماعة أو قوم عليه، فلو أراد كتابة أخبار الجند مثلاً لتنازعوا عليه، وكذلك الحال لو أراد كتابة أخبار الأمراء، والحاشية، والفقهاء، وغيرهم من فئات المجتمع. ينكشف ذلك في الكثير من الحكايات التي يذكرها، إذ يقول في إحدى حكاياته: قال صاحبنا: نزلنا من أهل الجزيرة، وإذا هم في بلاد باردة، وإذا حطبهم شر حطب، وإذا الأرض كلها غابة واحدة طرفاء .... استطاع الجاحظ أن يروي سيرة المكان، وأهله، بكل تفاصيلهم وطوائفهم، وحتى تقلبات فصول السنة عليهم، ليقدم بذلك وثيقة تاريخية حية، لا يمكن أن يكشفها أي توثيق تاريخي تقليدي، بل حقق ما هو أبعد من الحالة العالمة للناس، ومستوياتهم الاجتماعية، وأصناف مطبخهم، وعاداتهم، إذ قدم البخلاء سيرة للفنون، والملابس، والغناء، والذهنية القائمة للفرد العربي في تلك المرحلة، والعلاقة بين السلطة والشعب، وصولاً إلى قدرته على تكثيف جغرافيا المكان، وطبيعيته، وأشهر النباتات فيه، وغيرها من التفاصيل، التي يصعب حصرها. لذلك ظل الجاحظ خالداً، ولذلك راحت الذهنية الغربية تقرأ تاريخنا، حرفاً حرفاً.

مشاركة :