يمكن القول بأن الصراع بين إسرائيل وإيران لم يعد مجرد فرضية تلوح في الأفق، بل بات واقعًا أيده الكثير من الأحداث المتقاربة في ظل استمرار تصاعد حدة الأعمال العدائية بينهما في الوقت الراهن في كل من العراق وسوريا ولبنان، كما أعادت حالة التوتر التي تسود الحدود بين إسرائيل ولبنان على مدار الأسابيع الماضية إلى الأذهان تفاصيل الحرب التي اندلعت بينهما عام 2006. وعلى مدار التاريخ شكلت إسرائيل تهديدًا لأمن الدول العربية المحيطة مثل: مصر والأردن وسوريا والعراق. واليوم تقوض الاستقرار الإقليمي من خلال عملياتها المستمرة ضد الجماعات التي تدعي أنها تُهدد أمنها القومي، فهي تعمل على ثلاث جبهات أحدثها العراق، حيثُ بدأت في قصف جماعات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. ففي 12 أغسطس الماضي وقع انفجار داخل مستودع للذخيرة في جنوب بغداد، تابع لاثنين من مليشيات قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، «كتائب سيد الشهداء»، و«كتائب جند الإمام». وفي وقت سابق شنت غارات على طول الحدود السورية ضد نقطة تابعة للواء 45 من قوات الحشد الشعبي. وثانيها حزب الله اللبناني، الذي يرتبط بشكل جوهري بالنظام الإيراني، حيث قصفت يوم 24 أغسطس الماضي مهبطا ادعت أنه تابع له وقُتل اثنان من عناصره. وفي الآونة الأخيرة، تجاوزت هذه المناوشات المسرح السوري، ففي الأول من سبتمبر، أطلق حزب الله عددا من الصواريخ المضادة للدبابات على إسرائيل؛ ما أدى إلى إطلاق تل أبيب 100 قذيفة مدفعية مضادة في أول تعامل عبر الحدود لتبادل إطلاق النار بين الاثنين منذ عام 2015. وعقب ذلك، أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي، «بنيامين نتنياهو»، أنه لا يخشى الحرب مع حزب الله، أو كفيله الإيراني. وقال: «نحن مستعدون للخطوات التالية في ضوء التطورات». ومن هنا، دفعت هذه الأحداث المعلّقين والأكاديميين وصناع السياسة إلى النظر في إمكانية تحول هذه الاشتباكات محدودة النطاق إلى حرب أوسع بدأت مظاهرها بالفعل في التشكل. وذهب آخرون إلى أنه حتى إذا لم يحدث هذا في لبنان أو سوريا، فقد ينشأ الصراع من تركيز إسرائيل الجديد على مهاجمة الجماعات المدعومة من إيران في العراق؛ مع تصعيد عرضي ربما يشمل دخول إيران أتون الحرب، وكذلك تدخل الولايات المتحدة، حليف إسرائيل. ويكمن الدافع الاستراتيجي وراء هجمات «تل أبيب» على العراق وسوريا ولبنان في شعورها بأنها مُحاصرة بوكلاء إيران الإقليميين، وخاصًة أن الأخيرة نجحت في الاستفادة من الحروب الأهلية في كل من العراق وسوريا، وما شهده لبنان في الثمانينيات؛ لتوسيع نفوذها الإقليمي، وقامت من خلال تقديم الدعم المالي واللوجستي بتشكيل تحالفات مع جماعات ومليشيات طائفية مماثلة لها أيديولوجيا، تم نشرها لخوض حروب بالوكالة ضد خصومها في الشرق الأوسط. وكان من بين هؤلاء، «حزب الله»، الذي سيطر على المشهد السياسي اللبناني ونجح في إقامة وجود عسكري دائم على حدود إسرائيل، وقام بدور رئيسي في الحرب الأهلية السورية. يوضح «ريتشارد سبنسر»، في صحيفة «التايمز»، أن «إسرائيل صعدت من هجماتها على حزب الله وغيره من الأهداف المرتبطة بإيران خلال السنوات الأخيرة؛ لاعتقادها أنها استغلت الحرب السورية في تعزيز قوتها». وعلى الرغم من الوجود الإيراني الطويل في كل من هذه الدول، فإن الجهود التي بذلتها «طهران» لتوسيع الترابط بين مليشياتها بالوكالة في المنطقة، قد شجعت على تزايد الهجمات الأخيرة من قبل تل أبيب. يقول «جوناثان سباير» في صحيفة «وول ستريت جورنال»، «تتعامل إيران مع المنطقة برمتها كمسرح عمليات واحد، وتحرك أصولها من دون إبداء قلق بشأن السيادة النظرية للحكومات في بغداد وبيروت ودمشق». ويضيف أن «إسرائيل بدأت أيضًا في التصرف وفقًا لهذه المعطيات والرد عليها»؛ في إشارة إلى أنه «إذا لم تحد إيران من وجودها في سوريا، فلن تقف إسرائيل مكتوفة الأيدي». وصرح «نتنياهو»: بأن «هناك إمبراطورية جديدة نشأت هدفها هو إلحاق الهزيمة بنا عبر وكلائها»، مضيفا: «ان أكبر تهديد لوجودنا يأتي من إيران». ومع ذلك، وعلى الرغم من المخاوف المتعلقة بالأمن القومي، فإن تركيز «نتنياهو» وحزبه الليكود يتعلق بما سيجنيه من فوائد انتخابية جراء الهجمات الأخيرة، وهو ما أكده «نيكولاس بلانفورد»، من «المجلس الأطلسي»، بأن «الدافع المُحتمل الآخر هو الانتخابات التي تلوح في الأفق ومحاولة نتنياهو إصقال سمعته كجالب للأمن». غير أن «استعراض القوة العسكرية ضد حزب الله قبل الانتخابات يمكن أن يكون مناورة محفوفة بالمخاطر». بالنظر إلى أنه إذا أشعل حربًا أخرى مثلما حدث عام 2006، فسوف تفقده شعبيته بين الناخبين. ومع الطبيعة الاستراتيجية لهجمات إسرائيل في العراق وسوريا ولبنان، إلى جانب حماسة «نتنياهو» السياسية لهذا النهج، يبدو من غير المحتمل أن توقف إسرائيل أنشطتها في المستقبل. وبالتالي يعتقد كثير من المُحللين أنه لما كان هذا يزيد من مخاطر التصعيد، فإنه يجعل من الصعب استبعاد تحول هذه الاشتباكات محدودة المستوى إلى صراع إقليمي. وعلى الأرجح، فإن هذا سوف ينشأ من المناوشات بين إسرائيل وحزب الله. تقول «مارا كارلين» في مجلة «فورين بوليسي»، إن نشوب حرب أخرى بين إسرائيل وحزب الله بات أمرا لا مفر منه، وخاصة أن «مسألة الصراع الراهنة، وتحول ميزان القوى في بلاد الشام وتقلص مناطق النفوذ والهيمنة هي مؤشرات على مواجهة وشيكة بين كلا الجانبين». وقد تنسب هذه الحرب في المقام الأول إلى عدم توافق أهداف كل من تل أبيب وحزب الله حيال كل من بيروت ودمشق على حد سواء. وبالنسبة إلى إسرائيل، فهي ترغب في القضاء على أي تهديد من قبل جماعة «حزب الله» على حدودها الشمالية، في حين لن تترك الجماعة تمركزها في هذه المنطقة التي تعتبرها مصدر قوتها العسكرية، كما تستفيد من اشتباكاتها مع إسرائيل، حيث تستمد دعمها من سلوكياتها المعادية للصهيونية، فضلا عن أغراض سياسية أخرى، مثل غض الطرف عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها لبنان والتي يلعب فيها حزب الله دورًا رئيسيا. ومع الوضع في الاعتبار، الهجمات الإسرائيلية التي طالت الحشد الشعبي في العراق، فهناك احتمالات لحدوث تصعيد في المنطقة بين كل من طهران وواشنطن. ومن الممكن، أن تتورط إسرائيل في صراع على ثلاث جبهات، مع خصومها الرئيسيين «بيروت ودمشق وبغداد»، وربما مع العديد من الجماعات المسلحة التي تعمل بالوكالة لصالح طهران أو أن الأخيرة ذاتها قد تستغل هذا الصراع في الرد على الضربات الهجومية الأخيرة من جانب إسرائيل. وفي هذا السياق، يقول «دانييل شابيرو»، سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل: «يمكن أن تؤدي الاشتباكات على جبهات متعددة مع وجود السياق السياسي الذي يبررها ويدعمها، إلى تحفيز أحد أو أكثر من خصوم إسرائيل على محاولة تصعيد التوتر للوصول إلى صراع أوسع». ومع ذلك، يُمكن الجزم بأن الجماعات التي استهدفتها إسرائيل لا ترغب في الدخول في حرب تقليدية معها في هذا الوقت. فعلى الرغم من مهاجمة «تل أبيب» حزب الله، فإن قوات الحشد الشعبي وغيرها من الجماعات الأخرى لم تقدم ردا حقيقيا في صورة أعمال انتقامية عسكرية. وربما يكون «حزب الله»، هو القادر على تحدي إسرائيل عسكريًا، ومع ذلك فإنه يريد حاليا تجنب أي صراع معها. واستبعد «نعيم قاسم»، نائب الأمين العام لحزب الله مؤخرا، أن «تكون أجواء التوتر الراهنة تقود إلى حرب ما، فالأمر برمته ليس إلا ردا على هجوم». وقال «أنشل بفيفر» في «صحيفة التايمز»، إن «حزب الله وإسرائيل لا يبحثان عن تصعيد للنزاع بينهما بشكل واسع النطاق»، ويمكن تفسير ذلك في ضوء النزاع الأخير بينهما عام 2006، والذي كبد الجانبين خسائر فادحة من حيث القوات ورءوس الأموال. وفي الوقت الحاضر، يعد التزام «حزب الله»، بتأمين النظام السوري والدفاع عنه أكبر عامل يضطره إلى كبح جماح تهوره العسكري تجاه إسرائيل. تقول «مارا كارلين»، إن «جماعة حزب الله ربما ترغب في التعافي من صراعها المضني في سوريا قبل فتح أي جبهة جديدة مع إسرائيل». ويبين «مايكل هيرتسوغ»، من «معهد واشنطن»، أنه: «طالما ظل حزب الله غير مهتم بشن حرب، فمن المرجح أن يدرس ردا محسوبا على الضربة الإسرائيلية». وبدون إثارة حفيظة أي إجراءات مضادة أشد قسوة، ستواصل إسرائيل اتباع نهجها الاستراتيجي الحالي المتمثل في شن غارات متقطعة ضد خصومها. وكما يقول «ستيفن كوك»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، فإن «ردع الإيرانيين ووكلائهم هو ما تفعله إسرائيل، وان نشوب حرب بين الأخيرة والجماعات المسلحة ليس موضع اهتمام أي من الطرفين حاليا». على العموم، إيران تمر حاليًّا بعدد من الأزمات الداخلية التي تُضعف قدرتها على شن حروب والاستمرار في صراع طويل الأمد؛ حيث يُعاني اقتصادها من الضعف، وانخفضت عُملتها، نتيجة معاناتها من نكسات طويلة جراء نظام العقوبات الدولية الذي دام عقودا، وسياسة واشنطن في فرض «الضغط الأقصى» عليها، وهي الأمور التي تجعل من تحمل تكاليف تورطها في حرب تقليدية مع إسرائيل أمرا غير مطروح حاليًّا. كما أنه من غير المرجح أن أيا من الجماعات المسلحة العراقية واللبنانية يستطيع القيام بذلك لنقص القدرات والإرهاق العسكري لحزب الله في الوقت ذاته.
مشاركة :