الحسد والغيرة أمراض تنخر في جسد العلاقات القائمة بين بعض أفراد المجتمع، فكيف نتعامل مع الشخصية الحاسدة في نطاق الأسرة أو العمل؟، فأمام هذا السؤال توقفت الكثير من إجابات الجنسين بمختلف الأعمار، فالبعض احتار بماذا يُجيب، والبعض فضَّل أن يلتزم الصمت؛ لأنَّه يعتمد على رعاية الله له أولاً وأخيراً، فهي من ستحميه من أعين الحاسدين والمشاعر السلبية للغيورين، وهناك من كان قراره حاسما عن طريق الابتعاد بشكل نهائي عن الحاسد وإطفاء فتيل نار الغيرة بأسلوبه وطريقته، كما أنَّ بعضهم يرى أن لا شيء لديه يستحق الغيرة والحسد، لذا فهو لا يخشى هذه العيون الحاسدة ولا مشاعر الغيرة الثائرة. وهناك أسباب كثيرة تقف وراء الغيرة التي تشتعل بين الموظفين إلى درجة يصعب التعامل معها بعض الأحيان، رغم أنَّها قد تكون مُثمرة أحياناً وتزيد من إنتاجية العمل إذا دخلت في الإطار الشريف والنزيه، كما أنَّها يمكن أن تنقلب أيضاً إلى شبح يُلقي بظلاله الكئيبة على مكان العمل إذا دخلت في إطار الرغبة في إحداث البلبلة والتخلّص من الموظف الذي لا ذنب له سوى أنَّه شخص منتج، والمؤسف أنَّ بعض قطاعات العمل المختلفة قد تُغفل أهمية متانة العلاقات الاجتماعية بين الموظفين وسبل تعزيز الأواصر الأخوية بينهم، حتى لا تحدث فجوة في مكان العمل ينتج عنها العديد من المشكلات، ومن ذلك الغيرة بين الزملاء. وقد تتأثَّر العلاقات الاجتماعية بين الأسر بمفهومها الواسع بهذا الصراع الدائر في إطار من الغيرة والحسد، وقد أصبحنا نرى أو نسمع أنَّ هناك من يحاول ألاَّ يُظهر نعم الله -عزَّ وجلّ- عليه أو يتحدث عنها، سواءً عند حصوله على ترقية وظيفية أو مالٍ عائد من إرث، أو حتى عند الرغبة في السفر أو تغيير شيء من أثاث المنزل. ديون متراكمة وأشار عدنان اليافي -موظف- إلى أنَّه لا يخشى الحسد ولا الحاسدين، إذ أنَّهم يعرفون من يحسدون جيداً، أمَّا بالنسبة له فهو رجل على باب الله بالكاد يسد الأفواه الجائعة التي تنتظره في منزله أثناء عودته من عمله، متسائلاً: "على ماذا سيحسدني الحاسد، على ديوني المتراكمة؟!". وفضَّلت رغد الصحاف -موظفة- أن تبتعد عن كل من تكتشف أنَّها حاسدة وغيورة، خاصةً في مجال العمل، مُشيرةً إلى أنَّ بعض الأوساط في مجال العمل قد لا تخلو من وجود هؤلاء، ومع ذلك فإنَّ تجنّبهم والابتعاد عنهم هو أفضل طريقة للوقاية منهم والأمن من شرورهم. ورأت أم عماد -ربّة منزل- أنَّ السكوت على النعم التي أنعم الله بها على المرء وعدم الحديث عنها أمام أيّ أحد هو الحل الأمثل لتجنّب حسد الحاسدين، ومن ذلك الحديث عن تفوّق الأبناء أو حصول بعضهم على وظيفة ما، حيث أنَّ البعض قد يكون لديه أبناء بالكاد أكملوا دراستهم وأنهوها دون تفوّق ووجدوا وظائف مردودها المادي ضعيف. خوف شديد وأوضحت شهد القوزي -موظفة- أنَّ التوكّل على الله -عزَّ وجل- في كل كبيرة وصغيرة هو الحصن الحصين من كيد الحاسدين، لافتةً إلى أنَّها وضعت عبارة "اللهم إنِّي حصَّنت نفسي وزوجي وأبنائي بحصنك الحصين وحبلك المتين من كيد الكائدين وسحر الساحرين وتسلّط وتلبّس الجن والشياطين" في الملف التعريفي "برو فايل" الخاص بها على برنامج "واتس آب"، ومع ذلك فإنَّها لم تخف خوفها الشديد من الحسد، حيث أنَّها لا تُخبر أحداً عن مشروعاتها المستقبلية. الأخذ بالأسباب وأكَّد د. سامي الماجد -عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة- على أنَّ المبالغة في الخوف من العين والحسد خطرٌ يتهدِّد الإيمان، مُضيفاً أنَّ الخوف من الحسد والغيرة والعين لا يجوز أن يبلغ مبلغ الخوف من الله -سبحانه وتعالى-، موضحاً أنَّ الله -عزَّ وجلّ- قال: "فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين"، مُشيراً إلى أنَّ الذين يبالغون في تخوّفهم من العين والحسد إنَّما هم مدخولون من ضعف توكُّلهم على الله سبحانه وتعالى. وأضاف أنَّ المؤمنَ إذا أخذ بالأوراد والمعوِّذات، التي تحرسه وتحفظه بحفظ الله -سبحانه وتعالى- لا ينبغي أن يبقى في قلبه بعد هذا التحصّن خوفٌ ولا قلقٌ من العين ولا من غيرها، فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين، وإلاَّ فما معنى توكّله على الله، موضحاً أنَّه ينبغي أن يكون لسان حاله فيما يأخذ أو يذر "قل لن يصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، مُبيِّناً أنَّ التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب. أوراد شرعية وبيَّن د. الماجد أنَّ نبي الله "يعقوب" حينما أرسل أبناءه إلى "مصر" ليميروا أهلهم، لم يمنعه توكلُّه على ربّه أن يأخذ حِذرَه أن تصيبهم أعين العائنين، فها هو يأمرهم أن يدخلوا من أبوابٍ متفرقة خشيةً عليهم من العين -على قول بعض المفسرين- لكنَّه قبل ذلك وبعده قد أعظمَ توكُّلَه على الله "وما أُغني عنكم من الله من شيء، إن الحكم إلاَّ لله، عليه توكَّلتُ وعليه فليتوكل المؤمنون"، مُضيفاً أنَّ من دلائل المبالغة في الخوف من العين والوسوسة في هذا الباب تكلُّف بعضهم إخفاء ما هو ظاهر للناس. ولفت إلى أنَّ من الدلائل أيضاً ما سيُظهر لهم حتماً، أو تكلّف بعضهم في التعمية على الحقيقة بالكذب المبين، أو بالتشكِّي خشية الحسد والعين، مُتسائلاً: "أين يقع هذا الخلق الذميم من قوله سبحانه: (وأمَّا بنعمة ربِّك فحدِّث)؟"، "وهل من التحدث بنعمة الله ومن شكرها أن يكذب المرء فيتشكّى من حاله كذباً وتصنّعاً؛ ليدرأ عنه أعين الحاسدين؟"، مُبيّناً أنَّه كان كافيه -لو كان صادقاً- أن يستمسك بالأوراد الشرعية والأدعية وكفى بها محصِّناً -بإذن الله- من كل سوء. غلبة العاطفة وأوضح أنَّ مسارعة المسارعين -لا سيّما بعض النساء- إلى اتّهام العين في كلِّ مصيبةٍ تحُلُّ بهم، أو في كلِّ مرض ينزل فجأة لا يصح أن يُحسب من تمام يقينهم وإيمانهم بالغيب، ولكنَّه محسوب من الجهل بالسنن التي لا تستقيم الحياة إلاَّ بها، كما أنَّه محسوب من غلبة العاطفة غير المحكومة بالميزان الشرعي، وربَّما أوغلوا في هذه المسارعة إلى اتّهام العين في كلِّ مصيبةٍ أو إخفاقٍ؛ ليتذرعوا بذلك إلى التملّص من المسؤولية. وأشار إلى أنَّ الأدلة الصحيحة استفاضت على أنَّ العين حق، ففي صحيح مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: "العين حقّ، ولو كان شيئا سابق القدر، لسبقته العين"، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: "أمر رسول الله أن نسترقيَ من العين"، وفي الصحيحين أيضاً عن أمِّ سلمة، أنَّ النبي رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة (أيّ شيءٌ من السواد)، فقال: استرقوا لها، فإنَّ بها النظرة"، مُضيفاً: "صحيح أنَّ العين حقّ، لكن ليس على النحو الذي يتوهمه البعض، ولو كانت كذلك لما نجح سعي، ولا فضل غني". وقال: "أرشد الشرع من رأى على غيره نعمة أعجبته، أو أثر فضل من الله يرى نفسه محروماً منه أن يبادر إلى الدعاء لصاحبه بالبركة، بل أرشد الشرع المسلمين عامة إلى ما يخفف عن نفوسهم وطأة التعلّق بالماديات والحرص على التفاخر، وغير ذلك ممَّا يفتح عليهم باب الحسد والغيرة، فقال سبحانه: (ولا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى)، وفي الصحيحين، قال رسول الله: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه". شعور نفسي ووصف د. أبو بكر باقادر -باحث اجتماعي- الشعور بالخوف من الغيرة والحسد بالشعور النفسي، مُضيفاً أنَّ الحسد حسب موروثنا الاجتماعي أمر موجود، بمعنى أنَّ هناك من لديه عين شريرة تتربص به وتكره الخير للآخرين، ويعتقد أنَّ هذا الشخص أو ذاك لا يستحق حدوث النعمة ويحاول التأثير النفسي عليه بحيث يجد نفسه يتعرض لأشياء جسدية ونفسية بسبب التفكير بعين الحاسد، لافتاً إلى أنَّ السلوك الجماعي عند النّاس يفرض إرادة على طريقة تصرفهم وليس بسبب الخوف من الغيرة والحسد. اضطراب مجتمعي وأكَّد د. أسامة النعيمي -استشاري أول أمراض نفسية، وعلاج إدمان- على أنَّ الحسد مرض شخصي، بيد أنَّ تأثيره يكون على الآخرين، مُضيفاً أنَّه مرض أو اضطراب مجتمعي، موضحاً أنَّ كل ما يقوم به الحاسد عائد لشعوره الداخلي بالنقص وأنَّه لا يستطيع أن يحصل على الأشياء التي يمتلكها الآخرون، وبالتالي فهو يستخدم وسيلة يكون لديه ثقة بها ويحاول أن يستخدم الحسد ليوحى للآخرين أنَّه صاحب سلطة وأنَّ باستطاعته التأثير عليهم. مرض نفسي وبيَّن ناصر الذبياني -أخصائي نفسي بمجمع الأمل للصحة النفسية بالمدينة المنورة- أنَّه من الممكن التعرف على الشخص الحاسد في المواقف التى تحدث، مثل: الخبر المفرح، حيث يُلاحظ على الحاسد الصمت أو القلق والتوتر أو التعليقات الساخرة أو إظهار العداء الصريح، أو حتى من خلال تعابير الوجه والانسحاب من الموقف أو محاولة التقليل من هذا النجاح، إلى جانب البحث للوصول إلى هذا النجاح بشتى الطرق. وأضاف أنَّه يمكن التعرّف عليه أحياناً من تغيُّر الصوت، كما أنَّه قد يظهر عليه عدم الفرح وعدم المشاركة، موضحاً أنَّ الحاسد لا يُظهر -عادةً- حسده للآخرين، أمَّا الغيرة، فإنَّ الشخص يُعبِّر عن غيرته وتظهر عليه الغيرة، سواءً كانت طبيعية أو غير طبيعية مرضية، مُشدِّداً على ضرورة الابتعاد عن هؤلاء عند معرفتنا بهم، إلى جانب عدم إظهار الفرح أمامهم مباشرةً، وكذلك عدم إخبارهم أنَّهم أشخاص حاسدون. وأرجع ذلك إلى أنَّه سيزيد من عدائيتهم، مُشيراً إلى أنَّهم قد يُنكرون أنَّهم أشخاص حاسدون، ناصحاً بالتوكل على الله أولاً وأخيراً، قال تعالى: (قل لن يصيبنا إلاَّ ماكتب الله لنا)، أمَّا الغيرة فهي الأسهل للتعامل إمَّا بالحوار مع الشخص مباشرة وإظهار الغيرة وأسبابها، كغيرة الزوجة على الزوج، مُبيّناً أنَّه ينبغي عليها هنا أن تُخبره بهذه الغيرة وأسبابها؛ لكي يتجنَّب المواقف التي تزيد الغيرة، وإذا لم يكن لها مبررات فيكون الحوار بالإقناع وعرض الغيور على عيادة نفسية؛ لأنَّها قد تكون مرضا نفسيّا.
مشاركة :