«عدو الأمس صديق اليوم».. مقولة تتناقلها الأجيال من التراث العربي القديم، أصبحت اليوم من أهم آليات العمل السياسي وتسوية النزاعات والصراعات على المستوى الدولي. ساعد على ذلك أن التطور العلمي وانتشار العولمة قد نجح في جعل العالم قرية صغيرة، وهو الأمر الذي تم استغلاله سياسيا في محاولة صهر العداوات بين الدول عن طريق الولوج إلى الشعوب نفسها، وتخطي الحكومات. ومع ثورة الإعلام الرقمي وصعود دور شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية، أصبحت هذه الآليات إحدى أهم وسائل الدبلوماسية، و«القوة الناعمة»، التي تستخدمها الدول لترويج قيمها وأفكارها، من خلال مخاطبة الملايين من الناس عبر هذا الفضاء اللا محدود مباشرة، فيما صار يعرف بـ«الدبلوماسية الرقمية»، والتي زاد الاهتمام بها في الدوائر البحثية والأكاديمية، وكذلك في دوائر السياسة الرسمية، وخصوصا بعد أحداث 11سبتمبر في الولايات المتحدة، وما تلتها من توترات في العالم، والتي كشفت مدى الحاجة إلى مد الجسور بين الشعوب والأمم وإيجاد مساحات للتفاهم والحوار. ومصطلح «الدبلوماسية الرقمية» حتى الآن ليس له تعريف محدد. وتعرفها «الخارجية البريطانية»، على أنها «حل لمشكلات السياسة الخارجية باستخدام الإنترنت»، بينما عرفها «فرغاس هانسون» من مركز «بروكينجز» على أنها «أحد استخدامات الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات لتحقيق الأهداف الدبلوماسية»، وغيرها من الاصطلاحات التي توضح أن الهدف الرئيسي منها يتلخص في كونها «مخرجًا لمشاكل السياسة الخارجية باستخدام الإنترنت عن طريق التواصل مع الجمهور مباشرة من دون حواجز». ووفقا لما جاء في تقرير الاستراتيجية الرقمية الصادر عن وزارة الشؤون الخارجية والكومنولث للمملكة المتحدة عام 2017، فإنه «من خلال شبكة الإنترنت، يمكننا توسيع نطاق التواصل مباشرة مع المجتمع المدني وكذلك الحكومات والأفراد المؤثرين»، فيما يعكس الطريقة التي تستخدمها الوزارة على الإنترنت كوسيلة اجتماعية متعددة الآليات. وكما يقول «توماس فريدمان»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن «شبكات التواصل الاجتماعي أجبرت أغلب السياسيين على الانخراط في حوار ذي اتجاهين مع الجمهور الأجنبي». وفضلاً عن كونها مصدرًا للمعلومات، فإن هناك عددا من الأهداف الأخرى، يحققها استخدام «الدبلوماسية الرقمية»، تتلخص في: «تضافر الجهود بين كافة مؤسسات الدولة من أجل تحقيق مصالحها الوطنية وزيادة قوتها الناعمة، التواصل مع الجمهور في العالم الافتراضي وتسخير الوسائل المتعددة للتأثير عليه، الاستفادة من التدفق الهائل للمعلومات في صنع السياسات مما يُمكن التنبؤ بالحركات الاجتماعية والسياسية التي على وشك الحدوث، كما هو الحال في ثورات ما سُمي الربيع العربي». ونظرًا إلى هذه الأهمية المتزايدة، لجأ الكثير من الدول إلى إنشاء دوائر مختصة بالدبلوماسية الرقمية في وزارات الخارجية ومكاتب الرؤساء وغير ذلك من الدوائر المختصة. وتعتبر التجربة البريطانية من أولى التجارب الناجحة في هذا الشأن، ويشير تقرير الدبلوماسية الرقمية لعام 2017 إلى تصدر المملكة المتحدة المركز الأول في أداء الدبلوماسية الرقمية، مستخدمة أكبر قدر ممكن من مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بالعديد من اللغات لخدمة دبلوماسيتها العامة، مثال ذلك، السفير البريطاني السابق لدى مصر «جون كاسن»، الذي اعتمد في استراتيجيته على محاورة المصريين بثقافتهم وأساليبهم التعبيرية. كذلك يرى «الاتحاد الأوروبي» أن الربط بين الدبلوماسية الرقمية والثقافية هو «مفتاح الانفتاح على الشعوب»؛ لذلك قام في السنوات الأخيرة بتطوير منصات رقمية للمحافظة على التراث الثقافي الأوروبي ونشره، واستخدام هذا التراث في التفاعل مع الجمهور العالمي. أما فرنسا، التي جاءت في المرتبة الثانية، وتلتها الولايات المتحدة؛ فقد اصطلح على دبلوماسيتها الإلكترونية بـ «دبلوماسية التأثير»؛ نظرًا إلى ما حققته من إنجاز في هذا الصدد، حيث استحدثت إمكانية الإصغاء إلى الجمهور وتبادل الآراء معهم مباشرة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. وخصصت وزارة الخارجية، جلسة تفاعلية شهرية على منصة تويتر، تتيح للفرنسيين بالخارج ومواطني الدول الأخرى التواصل مع المسؤولين والإجابة عن تساؤلاتهم، وهو ما يحقق أكبر قدر من التأثير الذي يخدم الهدف الأساسي للدبلوماسية الرقمية، أي «مخاطبة الجمهور والتأثير عليه مباشرة من دون كلفة تُذكر». ولعل هذا الأمر هو ما تحاول إسرائيل فعله اليوم، من خلال محاولة تسوية نزاعها مع العرب والفلسطينيين بالتواصل مع الشعوب -وليس الحكومات التي ثبت فشل التعاون والتسوية معها قرابة سبعة عقود- محاكية إياهم بثقافتهم وأسلوبهم ولغتهم. ويشير الواقع العملي إلى أن إسرائيل انتقلت من المرتبة الثامنة على مستوى العالم في 2016 إلى المرتبة الرابعة عام 2018، في استخدام الدبلوماسية الرقمية، حيث أدركت أن الأدوات الصلبة أثبتت فشلها في حل الصراع مع العرب وأن الأمل في استغلال قوتها الناعمة. يقول «يوفال روتوم»، المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية: «صارت إسرائيل تتواصل مع جماهير جديدة بشكل يتجاوز الحدود التي كان يستحيل تخطّيها فيما مضى، لتفتح بالتالي قنوات اتصال شخصية تسمح لنا بإنجاز مستقبل من التعاون والشراكة». وبالنظر إلى أن الشرق الأوسط يعيش فيه حوالي 280 مليون عربي، من بينهم 145 مليونا يستخدمون الإنترنت، ويستخدم 100 مليون الفيسبوك، فضلاً عن شبكات التواصل الأخرى، مثل تويتر وإنستغرام وسناب شات وغيرها والتي يرتادها الملايين، ومعظمهم من الشباب، فقد أيقن الكيان الإسرائيلي أن استراتيجيته في المنطقة لا بد أن توجه إلى الشباب العربي، الذي توصلت الاستطلاعات إلى أن حوالي 90% منه يستخدم هذه المواقع. وبالتالي فاستغلال هذا الواقع الافتراضي هو السبيل الوحيد لاختزال عقولهم والتأثير فيها. وبناء عليه، سعت إسرائيل إلى تنفيذ استراتيجيتها مع بدء الثورات في تونس ومصر عام 2011، بإنشاء فرع للدبلوماسية الرقمية بالحكومة الإسرائيلية، وتنشيط حسابات المتحدثين الرسميين للوزارات على وسائل التواصل الاجتماعي بصورة ملحوظة، والتي تعرض مدى تسامح «إسرائيل»، وأنها ضحية، وغيرها من المزاعم التي تحقق منها هدفا واضحا في إطار دبلوماسيتها الرقمية، فيما أبدى المتابعون العرب تفاعلا معها. وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية على وجه الخصوص، قد وظفت عشرات الخبرات في هذا المجال، فإن التركيز الأكبر يقع على عاتق جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعتمد على علم الهندسة الاجتماعية، والمعني بـ«تغيير قناعات الشعوب تدريجيا من خلال دراسة خصائصها النفسية وتقديم محتوى إعلامي مقبول لديها». وفي إطار هذا الواقع، تمكّنت إحدى الصفحات الإسرائيلية على فيسبوك -«إسرائيل تتكلم بالعربية»- وحدها من جذب أكثر من 1.8 مليون متابع عربي، بالتركيز على موضوعات مثل المطبخ الإسرائيلي والموسيقى والابتكار، مما أسهم في مزيد من الانتشار والتوسع. يقول «يوناتان جونين»، رئيس قسم مواقع التواصل الصادرة باللغة العربية في «الخارجية الإسرائيلية»: «نتلقى رسائل أسبوعيًا من رواد الأعمال والمتحمسين للتكنولوجيا من مختلف الدول العربية المهتمين بالتعرف على الشركات الناشئة الإسرائيلية وفرص التعاون معها»، بينما بلغ عدد المتفاعلين مع القنوات الإسرائيلية الأخرى على الشبكات الاجتماعية ما يقرب من 220 مليونا من العالم العربي. أما فيما يتعلق بالدول العربية، نجد أن هناك دولا ذات نشاط وتفاعل عبر القنوات الإلكترونية المختلفة والبعض الآخر لا يعير هذه الآلية الاهتمام المناسب، فمثلاً شعوب الخليج تعد من أكثر شعوب العالم إدراكا لأهمية الدبلوماسية الرقمية وأكثرها استخداما لمواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ تم استخدامها بصورة موسعة خلال السنوات الخمس الماضية حتى إن أزمات دبلوماسية قد جرت بسبب تغريدة على «تويتر»، أو إعادة لتغريدة ناشط على ذات الموقع، كتلك الواقعة التي حدثت بين دولتي الإمارات وتركيا على خلفية إعادة وزير الدولة الإماراتي أنور قرقاش تغريدة اعتبرتها أنقرة مسيئة إلى أحد رموز الدولة العثمانية. ويعد «قرقاش» من أهم المسؤولين العرب الذين يطبقون أسلوب الدبلوماسية الرقمية، وبدا ذلك جليا خلال الأزمة الخليجية ومقاطعة الرباعي العربي لقطر، حيث كان لتغريداته أثر كبير في إجهاض مزاعم قطرية وعبّر من خلالها على مواقف دولته ودول الرباعي مجتمعة بصورة متسارعة لا يمكن أن تحققها الدبلوماسية التقليدية، ولا سيما أن الدوحة من أبرز الدول التي تمتلك جيوشا إلكترونية تطلقها لتحقيق أهدافها. فيما كانت الخارجية السعودية سباقة في هذا المجال؛ من خلال تواجدها منذ وقت مبكّر في العالم الافتراضي، مقدمة خدماتها ورسالتها عبره، وكذلك الحال بالنسبة لدولتي الإمارات والبحرين المعروفتين بنشاطهما وتفاعلهما من خلال هذه المنصات، حيث احتلت المرتبة الثالثة عالميًا عام 2018 في مؤشر نسبة مستخدمي الإنترنت التي بلغت 98% من إجمالي السكان، وهو نفس العام التي قفزت فيه المملكة 60 مرتبة عالمية في سرعة الإنترنت. فيما تبنت «الخارجية المصرية» استراتيجية «الدبلوماسية الرقمية»، منذ وقت مبكر أيضا؛ بهدف الترويج للقرارات والجهود التي تبذل في هذا الشأن. أما بالنسبة لدولة لفلسطين، فقد أدركت أهمية التواجد على هذه الساحات ولكن حالها مثل باقي الدول العربية، لم تستطع أن تستغلها بالطريقة المثلى. ويبدو من الإجراءات المتخذة أن هدفها الأساسي جراء دبلوماسيتها العامة هو نيل الاعتراف الدولي بها، سالكة كافة الوسائل المتاحة لديها نحو تحقيقه، بما في ذلك الأداة الرقمية. وتركز العديد من السفارات جهودها على هذه القضية، مثل نشر السفارة الفلسطينية في زيمباوي 2015 منشورًا يتضمن التأكيد على رفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة، وأيضًا في 2016 اتبعت السفارة الفلسطينية في كوبنهاجن مقاربة أخرى، من خلال نشر فيديو يحتوي على خرائط تاريخية توضح حقيقة فلسطين قبل قيام إسرائيل. وبالنظر إلى معظم الأنشطة الرقمية، حتى الآن لم تقدم معلومات ذات قيمة لإيضاح مدى الأذى والعنف الناجم عن مجاورتهم لمغتصبي أرضهم وتعديهم على حق الفلسطينيين أصحاب الحقوق التاريخية. وجاءت معظم المنشورات والتغريدات الرقمية عبارة عن أخبار فقط، دون تقديم مادة إبداعية، تحث على التفاعل معها. يقول الصحفي الفلسطيني «عمار جمهور»: «نحن في أمس الحاجة للولوج إلى حقل الدبلوماسية الرقمية، متسلحين بمضامين وقضايا تحمل أبعادًا إنسانية، يمكن تسويقها بيسر وسهولة، لتعزيز روايتنا الإعلامية، وتدويل نشرها عالميًّا، لتصبح هي الأداة الفاعلة في مواجهة التجربة الإسرائيلية والتصدي لها». ويضيف «صالح مشارقة»، أستاذ الإعلام في جامعة «بيرزيت»: «يجب أن نتحرك دبلوماسيا خارج الحدود المألوفة، لتعريف العالم بقضيتنا وكسب تأييدهم لها، ومخاطبة كل أمة بلغتها، عبر فيديوهات وأفلام قصيرة حول التاريخ والتراث وكل ما يتعلق بهويتنا الوطنية». وفي المقابل، تسعى إسرائيل إلى التأكيد والتأثير، مصورة ذاتها كضحية مضطهدة، فمثلا، إذا مر إسرائيلي بجانب فلسطيني في أحد الشوارع، يتم الترويج لتلك الحادثة كدليل على مدى السماحة والسلام بين الشعبين، وأن كل ما ينادى ويشكو منه العرب ما هو إلا ادعاءات كاذبة. وأوضح «ماهر حجازي» بالمركز الفلسطيني للإعلام، أن «المشاركة الفلسطينية في الحملات الرقمية لا تزال دون المستوى المطلوب، وأن هناك شريحة فلسطينية واسعة لا تؤمن حتى الآن بجدوى هذه الحملات الرقمية». على العموم، فإن التطور الذي يشهده العالم اليوم قد طال الأدوات السياسية للدول أيضًا، فلم تعد الأدوات الصلبة هي المسيطرة أو الحاسمة في أي صراع، مما يجعل من الضروري على الدول العربية تطوير أساليبها ومواكبة هذا التطور التكنولوجي واستغلاله بالشكل الأمثل، ولا سيما في صراعها مع إسرائيل، من خلال استخدام دبلوماسيتها الرقمية في تمتين الرواية الفلسطينية وترويجها دوليا، واستهداف مكونات أساسية في بنية المجتمع الغربي وزيادة وعيه بشأن القضية الفلسطينية، والتصدي لمغالطات وتناقضات السياسة الأمريكية، بالمواد الإعلامية والمعرفية المستندة إلى المعلومة والمعرفة والحقيقة.
مشاركة :