تُناوِر إسرائيل وأميركا بين الخلافات الداخلية العراقية ليتسنى ضرْب «الحشد الشعبي». وقد تمتّعت هذه القوات الأمنية بدعم كبير في العراق وكذلك جذبت أعداء كثر. وسبب العداء يعود أولاً إلى البصمة الإيرانية داخل «الحشد». ومن الطبيعي أن تكون إيران قريبة من البلد الحدودي العراق الذي تربطها معه علاقات دينية وتجارية، وهي كانت أول مَن هبّ لمساعدة العراق ضدّ «داعش» العام 2014.إلا أن النفور من إيران يعود إلى الوقت الذي كان السيد مقتدى الصدر، الابن المدلل لطهران لأنه وقف في وجه أميركا في العراق وما رافق تلك المرحلة من ممارساتٍ لأنصاره في مدينة النجف. وبدأت العلاقة تتدهور بين طهران والصدر بعد خمس سنوات من الدعم الكامل له. وأصبحت أكثر مرارة عندما اتهم الصدر، طهران بشق عصا مناصريه إلى مجموعات عدة: «عصائب أهل الحق»، «حركة النجباء» و«كتائب الإمام علي». إلا أن زعيم التيار الصدري لم يكن الوحيد الذي عانى مشاكل مع إيران.لقد اعتبرت مرجعية النجف، أن طهران هي المسؤولة عن أعمال الصدر واعتبرت مواجهتَه مع القوات الأميركية عاميْ 2003 و2004 غير مجْدية. مع العلم أن آية الله العظمى السيد علي السيستاني، هو الذي أنقذ السيد الصدر من الموت ومَنَع أميركا من إلقاء القبض عليه.ويحافظ السيد السيستاني اليوم على علاقة ودية مع الصدر من دون أن يؤيد أعماله وقراراته. ويشارك السيستاني سخط الصدر على إيران لما يعتبرانه تدخّلاً في الشؤون الداخلية. ويفضّل المرجع الديني الأعلى إبقاء العراق خارج الصراع الإقليمي - الدولي ولا يحبذ أي تدخل خارجي، ولا حتى من إيران و«حزب الله» اللبناني في العراق وفي تشكيل العديد من الحكومات كما حصل.وعلى الرغم من هذا الاستياء الداخلي لبعض الفرقاء، فإن إيران و«حزب الله» لعبا دوراً أساسياً في تشكيل حكومات عدة وخصوصاً بعد حكومة إبراهيم الجعفري وحتى انتخاب عادل عبدالمهدي، رئيسأً للحكومة العراقية. وكان السيستاني قد كتب رسالة للمرة الأولى يرفض فيها إعادة انتخاب المالكي لولاية ثالثة ليحلّ حيدر العبادي محله على الرغم من عدم موافقة اللواء قاسم سليماني على انتخابه. وكان العبادي معادياً لسليماني لسنوات طويلة، ولكن قائد «فيلق القدس» لعب دوراً مهماً لمنع إعادة انتخابه وإيصال عبدالمهدي إلى رئاسة الوزراء.وقد وضعت طهران وحكومة العبادي الخلافات جانباً لهزيمة «داعش» - حتى ولو لم تحل هذه الخلافات - وسلّمت إيران أسلحةً إلى بغداد وأربيل وشكل السيد السيستاني القاعدة الشرعية والوطنية لمحاربة ووقف تقدُّم «داعش» في العراق. وقام بتسليح بعض الوحدات من «بيت المال».وتتواجد القوات الأميركية والقوات العراقية ضمن قواعد عسكرية متعددة مشترَكة، إلا أن أميركا تتمتع باستقلالية تامة في المحيط الذي تسيطر عليه ضمن هذه القواعد. وقد قدّم العبادي هذه «الهدية» لأميركا حتى أنه وافَقَ على منح هذه القوات الحصانة اللازمة في هذه القواعد والعراق.إلا أن مصادر في المخابرات العراقية تعتقد جازمةً بأن أميركا تقدّم الدعم اللوجستي لإسرائيل لتستخدم طائرات من دون طيّار سبق أن قامت بتفجير خمسة مستودعات وقتْل قائد في «الحشد الشعبي» بطائرة مسيَّرة قرب الحدود السورية - العراقية.وتشتهر إسرائيل في قراءتها للوضع السياسي وتقويم أوضاع البلد الذي تريد العمل فيه لتدرس التهديدات والعواقب التي من الممكن أن تَنْتُجَ عن تَدَخُّلها. وهنا بيت القصيد. فالوضع السياسي في العراق اليوم يشبه وضْع لبنان العام 2006 عندما قررت إسرائيل الحرب. وكان لبنان منقسماً بين مجموعة تُسمى بـ«8 آذار» تدعم محور المقاومة ومجموعة «14 آذار» الداعمة لأميركا. واستفادتْ إسرائيل من الانقسام الداخلي، إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها وفي نزْع سلاح «حزب الله» الذي حاولتْ الحكومة العام 2008 وقْف شبكة الاتصالات الخاصة والسرية العائدة له والتي تربط جميع قواعده في لبنان وخارجه بما فيها سورية.واليوم يجد العراق نفسه منقسماً - وفي وضع مشابِه للبنان 2006 حول جدوى «الحشد». بل أسوأ من ذلك، فإن الشيعة أنفسهم منقسمون حول «الحشد» ويطالب بعضهم بحلّه واندماجه بالقوات الأمنية لإنهاء نفوذ إيران داخله.وتُوَفِّر هذه الخلافات الداخلية الثغرة التي سمحت لإسرائيل بالتسلّل من خلالها لمحاربة إيران في حديقتها الخلفية في العراق. وقد ساعَدَ إسرائيل الوضع المتشنج بين إيران وأميركا لتضرب داخل العراق وخصوصاً بعد أخبارٍ تناقلتها وسائل الإعلام عن تكديس صواريخ إيرانية دقيقة الإصابة في العراق مع «الحشد». وقد صرّح الزعيم الشيعي السيد عمار الحكيم بأن «العراق ليس مستودعاً لأسلحة غير عراقية. والعراق ليس مسرحاً لحرب تريدها دولة أخرى على أرضنا. يجب وضع الخلافات جانباً».تريد إيران للعراق أن يبقى قوياً، ولـ«الحشد» أن يبقى متيقّظاً وفاعلاً، لأن «داعش» لا يزال موجوداً في العراق وأميركا تملك قوات هناك. وكذلك ترغب طهران في استمرار تدفق الأموال على العراق لتستفيد من استقراره وتبيع فيه النفط والغاز وتعزّز تجارتها.لم يعد بإمكان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أن يكرّر ضرباته في العراق مثلما يفعل في سورية (حيث يضرب مئات الأهداف فيها) من دون أن يأخذ في الحسبان أنه إذا تَمادى بذلك في العراق فإنه سيهدّد القوات الأميركية القابعة هناك.لقد بدأ العراق اتصالاته مع روسيا والصين للبحث عن قدرات عسكرية متنوّعة ولمنْع أي عدوان إسرائيلي مستقبلي. فعلى عكس سورية، من المستبعد أن تصبح بلاد ما بين النهرين مسرحاً وملعباً لإسرائيل بعد اليوم.
مشاركة :