«الممرض المرتب»، لقب أطلقه رؤساء العمل على الممرض سمير روحي منصور الذي وطئت قدمه أرض الكويت العام 1955 ليكون جزءا من الممرضين الأوائل الذين عملوا في وزارة الصحة، لأنه كان يولي ترتيب السرير ونظافة ملابسه أولوية خاصة. خلع منصور «البالطو» الأبيض العام 2000 متقاعداً بعد 45 عاماً من العطاء، لكن قلبه الأبيض ما زال ينبض بحب الكويت التي يواصل العيش فيها كفيلاً لنفسه. مولده كان في جنين العام 1936، وتعليمه كان في لبنان وعمله في الكويت... كما مكث قرابة العام ضمن بعثة طبية كويتية في الجزائر... أول راتب تقاضاه كان 600 روبية، أي قرابة 45 ديناراً كويتياً، فيما كان آخر راتب له 527 ديناراً، والجناح الأول في المستشفى الأميري كان شاهداً على التزامه ومهارته وتفانيه في العمل. يعرّف أقدم ممرض في الكويت عن نفسه لـ«الراي»، بالقول «اسمي سمير روحي منصور، من مواليد جنين بفلسطين يوم العاشر من مارس سنة 1936 التي تسمى سنة الثورة، حيث كان الاحتلال الإنكليزي يلاحق الثوار الفلسطينيين ويستحل خيرات فلسطين، وولدت في المنزل على يد قابلة تسمى عفو». وعن تفاصيل قدومه الكويت، يضيف «أتيت الكويت في العام 1955، عن طريق ابن عمي الذي كان يعمل مساحاً هندسياً، وكنت وقتها أعمل في محل أبي للأحذية قبل القدوم للكويت. وفيما كنت قد أنهيت دراسة الصف الثاني الثانوي، طلب ابن عمي مني أن أذهب للمشفى الذي بجوارنا لأكتسب خبرة عن أساسيات التمريض قبل المجيء للكويت، فلم يكن هناك وقتها مدارس للتمريض». ويتابع متحدثاً عن تفاصيل الرحلة «خرجت من فلسطين من مطار قلندية في القدس، وما زلت أتذكر دموع أخواتي حتى هذا اليوم. ووصلت مطار النزهة في الكويت يوم 21 /8 / 1955، وسكنت في المرقاب، وذهبت وقتها للمستشفى الأميري، حيث قابلتني رئيستي في العمل فاطمة العريس، وأعطتني ميزان حرارة ووجهتني لمستشفى الطب النفسي (وكانت تسمى وقتها الملجأ)... وبعدها في 1959 تم بناء مبنى جديد لهذا المستشفى، حيث سُمي مستشفى الأمراض العصبية والنفسية، وعملت في هذا المبنى. بعدها عدت للبنان لأكمل دراستي عن التمريض لأن التمريض فن له أصول، وبعدها عدت للكويت مرة أخرى، وتم توجيهي للمستشفى الأميري في الجناح الأول، حيث كنت أعمل من السابعة صباحاً وحتى السابعة مساء». وعن أول راتب تقاضاه، يقول «كان 600 روبية (كل عشر روبيات تعادل 750 فلساً) أي قرابة 45 ديناراً، لكن الحياة كانت رخيصة، فقد كنت أسكن مع اثنين من زملائي أثناء فترة العزوبية، في حوش في منطقة شرق به خمس غرف وثلاثة مطابخ وحمامات، ولم يكن هناك تكييف سوى في المستشفيات وليس في البيوت».ويضيف «مكثت قرابة سنة في المستشفى الأميري، وبعدها تم بناء مستشفى الصباح في عهد أمير الكويت الراحل الشيخ عبدالله السالم. وأبلغوني أنه سيتم ارسالي لمستشفى الصباح، وكان معي عدد من الهنود وهناك اثنان من الجنسيات العربية، ولم يكن في هذه المستشفى آنذاك سوى قسمي الأطفال والنساء، وتم إبلاغي انه سيتم تسليمي الإشراف على جهاز تعقيم حليب الأطفال، والحمد لله لا أتذكر طوال حياتي المهنية أني ارتكبت أي خطأ، بل كنت أحظى بحب كل الأطباء الذين عملوا معي». وعن أسفاره خارج الكويت خلال عمله كممرض، يقول «سافرت للجزائر ضمن بعثة كويتية طبية مع أربع ممرضات وست أطباء، وكان رئيس مجلس إدارة جمعية الهلال الأحمر الكويتية السابق برجس البرجس، رحمه الله، رئيس البعثة، وكان مسار الطائرة وقتها الكويت - بيروت- روما- باريس، ثم الجزائر. مكثت سنة في الجزائر وعدت بعدها لمستشفى الصباح في العيادات الخارجية. ورأيت حوادث لم يرها أحد بحياته على مدى عشر سنوات في ذلك المستشفى».أما محطته التالية بعد مستشفى الصباح، فـ«كان مستشفى كلية الشرطة، وبقيت فيه 20 عاماً، وأتذكر أنني تلقيت دورة إسعافات في تلك الفترة حول التنفس الصناعي والكشف عن النبض، وبعدها طُلب منا تدريس مبادئ الإسعافات والتشريح لضباط الصف». ويتحدث عن آخر راتب تقاضاه، قائلاً «كان 527 ديناراً، وبقيت أعمل في مستشفى الشرطة حتى بداية الغزو العراقي، وخلال الغزو طُلب مني الإشراف على الصيدلية، وكنت أصرف في اليوم 100 وصفة، بالإضافة إلى عملي، ولم يحدث خطأ رغم أن هذه المهمة ليست وظيفتي. كان يأتي كويتيون في الخفاء أعالجهم وأعطيهم انسولين، وكنت أنقلهم بسيارتي لأن عليها شارة الهلال الأحمر». وعن مكان عمله بعد تحرير الكويت، يجيب «عملت في عيادة سجن الإبعاد بعد تحرير الكويت مباشرة، حيث مكثت هناك عشر سنوات حتى عام 2000، وكونت عددا كبيرا من الصداقات خلال فترة عملي». ويستطرد روحي شارحاً أغرب حادثة صادفته أثناء عمله قائلاً «أتتني سيارة إطفاء حمراء فيها مريض قد كُسر فخذه بعدما سقط على الأرض، واتصلت بالدكتور لكنه تأخر في الوصول، فطلبت من المريض الذهاب لمستشفى الرازي، فإذا به يذهب ويشتكي عليّ لدى المخفر وأتاني المحقق، وأبلغته بما حدث، واتصلت بالدكتور الذي تأخرأيضاً، وتمت محاكمته بعدها، وخصم اسبوعين منه، وبعدها تم عمل غرفة لطبيب الخفارة داخل المستشفى».ويُعرّج على قصة أخرى إنسانية يرويها قائلاً «كان هناك مريض عمره 18 عاماً وحالته كانت تستدعي رعاية خاصة، بحيث يتم قياس ضغطه وحرارته كل 15 دقيقة، وفي منتصف الليل وجدت الباب يتم طرقه من قبل شخص مهيب، ووجدته يبكي وبكيت على بكائه، وقال إنه يعلم أنه ممنوع الزيارة ولكنه والد هذا المريض ويريد الاطمئنان عليه، وخالفت القانون لدواع إنسانية». ومضات القبطية والنظيف يحكي سمير روحي منصور عن إحدى رئيساته في العمل، قائلاً «خلال عملي في الجناح الأول في مستشفى الأميري، كانت رئيستي قبطية تسمى ملك، وكانت دائماً ما تستدعيني، وتقول (ابعثوا لي الممرض النظيف المرتب) فقد كنت حريصاً على نظافتي الشخصية». المياه والحمير عن حجم التحول في الحياة المدنية، وما حدث من تطور، يقول منصور بعين المراقب «كانت المياه توزع على الحمير التي تحمل جرات المياه ونضع فيها صلبوخا لتصفيتها، وكنت أطبخ بنفسي كشري وكنت أذهب للسينما بعد الدوام، فقد كان هناك سينما الحمرا وسينما الفردوس، ولم يكن هناك هنود ولا باكستانيون كُثر، بل الغالبية كانت من المصريين والفلسطينيين». الجناح الأول... مدرسة يصف منصور الجناح الأول في مستشفى الأميري بأنه «مدرسة في تعلم فن التمريض، فقد كان وقتها يضم 120 مريضاً ما بين جراحة وكسور وحروق، ومن يرد أن يتعلم أصول التمريض فعليه بالجناح الأول». بيوت عربية في معرض حديثه عن التغير الذي لاحظه منصور، بين يوم قدومه للمرقاب وما هو موجود الآن، يوضح أن «المرقاب كانت مليئة وقتها بالفلسطينيين والمصريين، وكل البيوت التي بها في ذلك الوقت كانت بيوتا عربية معلقا في أبوابها حلقة، وليست عمارات شاهقة كما هو الآن». كفيل... نفسه يختتم منصور حديثه قائلاً «أنا الآن كفيل نفسي، فقد أعطتني وزارة الصحة هذه الميزة نظير ما قدمته من أعمال، ولا أستطيع سوى القول إني أحب الكويت، وحكامها وأهلها، وأدعو الله لها ليل نهار أن يديم عليها الأمن والأمان».
مشاركة :