كعادته شهد مهرجان تورونتو الذي أقيم من الخامس وحتى الخامس عشر من هذا الشهر سيلاً من الأفلام المختلفة في أكثر من شأن. المناسبة الرابعة والأربعون حفلت بأفلام شهدت عروضها العالمية الأولى إلى جانب أفلام جاءته من مهرجانات سابقة. في عرف أشهر مهرجانات شمالي القارة الأميركية، فإن نسبة كل مصدر لم تعد مهمّة؛ كون المهرجان تخطى منذ سنوات هذه المسألة وتحوّل إلى مدخل لأفلام العالم وبوّابة لما ينجح منها دخول الأشهر الثلاثة الأخيرة من السنة فيجد توزيعاً لائقاً أو يثير اهتماماً كافياً لنجاحه تجارياً أو، على الأقل، يدخل صرح تلك التي تنتظر دورها في ترشيحات الأوسكار. بطبيعة الحال، ومع نحو 300 فيلم (معظمها روائي وتسجيلي طويل)، فإن الأفلام التي عرضت في صالات المهرجان، حيث تمتد أمامها صفوف طويلة من الهواة والشغوفين والمتابعين، تحتوي على كل موضوع ممكن من السير الشخصية للأفلام ذات المنحى التاريخي. ومن الكوميديات النسوية والأكشن الرجالية، إلى أفلام القضايا والأحداث الفعلية التي يمر بها العالم أو ما زال متأثراً بها بعد مرور سنوات عليها. هذه الأخيرة كان لها حجم كبير من الحضور؛ إذ تتعلم السينما ألا تدير ظهرها لما يحدث حولها منجزة أفلاماً تمتد مواضيعها من الحرب السورية إلى الحرب العراقية، ومن تاريخ جنوب أفريقيا إلى قراءة مستقبل الإنسان على ظهر هذا الكوكب. - من المكسيك إلى سوريا «المستقبل يبدأ الآن»، يقول الممثل الراحل ستيف ماكوين لصديقته جاكلين بيسيت في فيلم بيتر ياتس «بوليت» (1968(وهو ما يردده فيلم «هايمو» الذي ينتجه بونغ جون - هو، المخرج الكوري الذي يواصل تعليقه على حال المجتمعات على أكثر من نحو. هو مخرج «أوكجا» الذي تعامل مع احتمالات المجاعة في المستقبل و«طفيلي» (الفائز بسعفة «كان» هذه السنة) حول الباع بين الثراء والفقر ويتعامل الآن مع المخرج شيم سونغ - بو في فيلم تشويقي يتخذ من تجارة البشر موضوعاً يكشف فيه عن الآثار المترتبة على هذه التجارة، ويصوّر حرباً بين فرقاء في محاولة البعض القضاء على أسبابها وآثارها. الفيلم من إنتاج ثلاث سنوات مضت لم تمنعه من دخول صرح المهرجان من جديد. بعض ما يطرحه الفيلم حالة اللا - استقرار الاقتصادي والشخصي بالنسبة لضحايا هذه التجارة وهو بعض ما يطرحه فيلم «جاهز للحرب» على الرغم من التباعد الشديد بين وجهتي الفيلم. «هايمو» (والعنوان بالكورية يعني «ضباب البحر») روائي بانورامي الطرح، بينما «جاهز للحرب» (Ready for War) تسجيلي لأندر رنزي محدد بثلاثة أفراد يمرون بتجربة شخصية فحواها أنهم يستحقون الجنسية الأميركية لكنهم لم يحصلوا عليها، بل ردّوا عنها. ثلاثة مجندين غير أميركيين حاربوا في الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق عادوا بعد الحرب إلى الولايات المتحدة وفوجئوا بأن السلطات رفضت طلبات تجنسهم. يكشف الفيلم عن أن هذا الرفض يعود إلى قانون صدر في التسعينات غيّر ما كان سائداً قبل ذلك من قانون يجيز، تلقائياً، لمن يحارب في الصف الأميركي الحصول على جنسيته بلا قيد أو شرط. الجنود الثلاثة يتحدّثون عن الألم المبرح الذي أصابهم (بعضهم تعرّض للسجن قبل ترحيله) وعن خيبة أمل أكثر ألماً؛ إذ اعتقدوا أنهم قدّموا صور الولاء للوطن الأميركي فبادلهم ذلك بعقاب غير متوقع. لكن إذا ما كانت الحرب التي اشترك فيها هؤلاء الجنود المولودون أساساً في المكسيك قد انتهت (أو انتهت بالنسبة إليهم لتبدأ حروبهم الجديدة ضد الإدارة السياسية) فإن الحرب السورية ما زالت دائرة والأفلام حولها ما زالت مطلوبة. بعد «لأجل سما» لوعد الخطيب، الفيلم التسجيلي الذي عرضه مهرجان «كان» والذي دار حول الممرضة التي تسجل لنفسها (وللعالم) أحوال مدينة حلب من خلال ما تعرضت إليه من قصف، ها هو فيلم تسجيلي آخر عن الموضوع. الفيلم هو «الكهف» والمكان هو «الغوطة الشرقية» والمخرج هو فارس فياض الذي سبق له وأن أنجز فيلم «آخر رجال حرب» ونال عليه جوائز عدة، وكان أحد الأفلام التي رُشحت لأوسكار أفضل فيلم تسجيلي سنة 2018. مثل ذلك الفيلم الجهد المبذول هنا لتقديم شرائح إنسانية تعاني من القتال (تم تصوير الفيلم خلال وبعد الحملة العسكرية على المنطقة المحاصرة) هو عماد هذا الفيلم الجديد لمخرجه، ومثل ذلك الفيلم لا يكترث لتحليل سياسي، بل يصب طاقته في تصوير الضحايا والمعانين والصور الإنسانية الممتزجة بالدم والعنف السائدين. لكن الفيلم يلتقي و«لأجل سما» من حيث إن الشرائح التي يوفرها هي نسائية هذه المرّة. - تاريخ بعيد ليس بعيداً عن هذا الوضع يأتي فيلم «موصل» الذي كان شوهد في مهرجان فينيسيا، وهو أحد فيلمين بالعنوان ذاته. الآخر فيلم تسجيلي ينتظر توزيعه التجاري إذا ما تمّت. «موصل» - تورونتو هو عن تلك الحامية العراقية المتدربة أميركياً على قتال الشوارع التي تتعقب قوات «داعش» في الموصل وتلتحم وإياها في معارك شبه متواصلة. المخرج ماثيو مايكل كارناهان يلتزم بنوع أفلام الحرب تماماً ويحقق فيلماً من بطولة ممثلين عرب (بينهم سهيل دباغ، آدم بيسا، إسحاق إلياس وأحمد الغانم) وباللغة العربية في سابقة لفيلم أميركي. ومن حرب إلى أخرى. فيلم المخرج الإسباني الجيد أليخاندرو أمينابار ينتقل إلى الحقبة التي واجه فيها حكم الجنرال فرانكو المطالبين بالتغيير؛ ما أدّى إلى حرب أهلية بين طرفين، أحدهما محافظ يريد إبقاء إسبانيا كما هي، والآخر ليبرالي يسعى للتغيير. فيلم أمينابار عنوانه «أثناء الحرب» (While at War) وهو فيلمه الأول منذ خمس عشرة سنة. هو فيلم روائي يتخذ من شخصية الكاتب أليخاندرو هرنانديز سبيله في كشف تلك الحقبة من التاريخ الشخصي والعام للكاتب الذي كان يعتبر (وربما ما زال) من أهم ثروات إسبانيا الأدبية إن لم يكن - لجانب فيديريكو غارسيا لوركا - من أهمها فعلاً. يتابع الفيلم ذلك التحوّل غير الواضح في أسبابه لتحول هرنانديز من كاتب ذي ميول اشتراكية إلى كاتب يميل للحكم القائم. يساهم هذا الوضع في ذلك التشكيل من الأحداث التي يعالجها أمينابار بأسلوبه الهادئ والممعن الكاشف عن الهم الفردي والجمعي من دون عناء. هذه حروب عسكرية تركت شروخها في البلاد التي وقعت فيها، لكن «لم تعد المافيا كما كانت» للإيطالي فرانكو موريسكو ينقلنا إلى حرب من نوع آخر. فقبل 25 سنة تم تنفيذ اغتيالات وتفجيرات في تحدٍ واضح للسلطات الإيطالية. المافيا، التقليدية، وقفت وراءها والمخرج يحاول الانتقال إلى ذلك الحين لمعرفة ما حدث. كان يستطيع أن يوفر على نفسه الجهد بمشاهدة أفلام فرانشسكو روزي الرائعة حول الموضوع.
مشاركة :