في عام التسامح، ويوماً تلو الآخر، تضيف الإمارات إلى رصيدها بعداً جديداً يثري نموذجها المتفرد في احترام الآخر والإقرار بالحق في التنوع الديني، واحترام أتباع الديانات الأخرى وضمان حريتهم في ممارسة عباداتهم، في دورٍ تصبح بالنسبة لهم ساحةً للقاء ومنصة للتآخي، تضمن اندماجهم في مجتمعهم، عبر أجواء تسودها الطمأنينة ويغمرها التسامح. نهج دأبت الإمارات عليه، تأكيداً لسمات وطن يزهو برؤية قياداته، التي تُعلي الجانب الإنساني، وتقدم صورة مشرقة للعرب والمسلمين، فقبل أسبوع أصدرت دائرة تنمية المجتمع في أبوظبي تراخيص لعدد 18 دور عبادة لغير المسلمين، ونظمت احتفالاً بهذه المناسبة يوم 22 من الشهر الجاري، أسمته «دعوة للتآلف» في خطوة مهمة، وثقتها دائرة تنمية المجتمع بكتيب تعريفي حمل عنوان «بيوت التسامح» يتضمن دور العبادة التي حصلت على الترخيص في الإمارة وهي: 17 كنيسة لمذاهب مسيحية متنوعة، ومعبد هندوسي. ومن بين الكنائس، كنيسة «يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة» الأولى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي. تطبيق عملي حصول دور عبادة لغير المسلمين على تراخيص رسمية، يجسّد رسوخ ثقافة التسامح في الإمارات، ضمن مسيرة ثابتة بأفق مستنير. فقد زار المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» حاضرة الفاتيكان عام 1951، كما شهد قصر الحصن ترانيم لعيد الميلاد عام 1958، ولعل الاكتشاف الأثري عام 1992 لدير مسيحي في جزيرة صير بني ياس في أبوظبي يعود تاريخه إلى القرنين السابع والثامن الميلادي، خير دليل على تسامح سكان الإمارات منذ حقب تاريخية بعيدة، ووعيهم بأهمية دور العبادة لغير المسلمين. وشهد عام 1965 بناء أول كنيسة في أبوظبي وهي كنيسة القديس يوسف، للمسيحيين الكاثوليك، تليها كنيسة القديس سانت أندروز في عام 1968 بمنطقة كورنيش أبوظبي، وانتقلت إلى منطقة المشرف عام 1984، وقد زار مقرها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في بادرة أكدت اهتمامه بأتباع الديانات الأخرى. واللافت أن هذه الكنيسة اعتادت سنوياً تنظيم حفل إفطار للمسلمين في رمضان، فهي مجاورة لمسجد «الشيخ محمد بن زايد»، الذي تم تدشينه عام 1985 وتغير اسمه بتوجيهات من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في يوليو 2017 ليصبح «مسجد مريم أم عيسى»، من أجل ترسيخ الصلات الإنسانية بين أتباع الديانات. ساحة التآخي إذا كان التسامح وقبول الآخر مظلة للوئام والتعايش السلمي بين أتباع الديانات المختلفة، فإن دور العبادة تصبح أرضية للقاء وساحة للتآخي، وببنى تحتية للتسامح. وتجسد فكرة «بيت العائلة الإبراهيمية» التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في ختام فعاليات زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية للإمارات، رؤية عالمية للتعايش، وخطوة نوعية جديدة أضافت من خلالها القيادة الإماراتية بعداً ملموساً على الأرض يترجم الرؤى إلى واقع، عبر اللجنة العليا لتحقيق أهداف وثيقة الأخوة الإنسانية، التي تشكلت في 19 أغسطس الماضي لتفعيل بنود الوثيقة ومتابعة تنفيذها من أجل السلام العالمي. وعقدت هذه اللجنة اجتماعات في نيويورك 22 سبتمبر الجاري، وأفصحت عن تصميمات لمجمع أديان سيقام في جزيرة السعديات بأبوظبي، ومن المخطط الانتهاء من تدشينه عام 2022 ويضم دور عبادة للديانات الإبراهيمية الثلاث، وذلك في إطار تفعيل لبند أساسي في وثيقة الأخوة الإنسانية. وهذا المجمع ذو رمزية إيجابية، ويحمل رسالة تعايش قوية بين أتباع الديانات الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية، ويعزز مكانة أبوظبي كمنصة للتسامح والتعايش. اعتراف متبادل لدى الدكتور رضوان السيد، أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية قناعة بأن دور العبادة دليل مهم على الحريات الدينية، وفي الوقت نفسه تعكس الاعتراف المتبادل بين أتباع الديانات، وهذا ما دأب عليه الشعب الإماراتي وتضمنه وتحميه الدولة. ويؤكد السيد أن دور العبادة ترسخ أسس العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين واليهود وغيرهم من أتباع الديانات، وتتكامل هذه الدور مع الفعاليات والأنشطة التي ترعاها المؤسسات الدينية والثقافية، ضمن جهود تتناغم مع الالتزام بقانون مكافحة التمييز والكراهية الصادر في الإمارات عام 2015 والهادف إلى إثراء ثقافة التسامح العالمي، ومواجهة مظاهر التمييز والعنصرية، أياً كانت طبيعتها، عرقية، أو دينية، أو ثقافية. الكنيسة القبطية في أبوظبي الكنيسة القبطية في أبوظبي مبادرة خالية من السياسة وأكد الدكتور محمد السماك، أمين عام اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي- المسيحي في لبنان، أهمية دور العبادة، في نشر ثقافة التسامح بين أتباع الديانات، وهذه الدور المقصود بها، كل بيت يذكر الله ويسبح الله ويوحد الله.ولدى السماك قناعة بأن الإمارات لا ترفع التسامح كشعار فلسفي مجرد، بل تترجمه إلى واقع يُعبِّر عن سياستها. وبعد مؤتمر الأخوة الإنسانية في أبوظبي، والإعلان عن وثيقة الأخوة الإنسانية بحضور قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية والإمام الأكبر فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، أصبح الكلام عن «العائلة الإبراهيمية» أكثر انتشاراً من السابق، ولذلك لاقى اقتراح أبوظبي بتدشين «بيت العائلة الإبراهيمية» قبولاً لخلوه من أي توظيف سياسي. ويوجد تصميم مقترح لدور عبادة للأديان الثلاثة داخل «بيت العائلة الإبراهيمية» في أبوظبي، جرى الإفصاح عن تدشينه أثناء زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية للعاصمة الإماراتية في فبراير الماضي، ويؤكد السماك أن القيادة الإماراتية طرحت الفكرة بعيداً عن أي منحى سياسي، فنبي الله إبراهيم «عليه السلام» هو أبو الأنبياء، وأول من استخدم كلمة «الإسلام» ويؤمن به اتباع الديانات السماوية الثلاث، إبراهيم جامع مشترك بين الديانات الثلاث، صحيح أن الشرائع مختلفة، لكننا نصلي لإله واحد «الله الواحد». قيم مشتركة يقول السماك: دعوة أبوظبي الخاصة ببيت العائلة الإبراهيمية تكتسب زخماً، يتنامى مع مرور الوقت، حيث بدأ الاهتمام بها في الدوائر الدينية الأوروبية. السماك كان في باريس قبل أسبوعين بدعوة من «مجلس الكنائس الأوروبي» لإلقاء محاضرة حول «الإبراهيمية» ضمن فعاليات مؤتمر سلّط الضوء على القيمة الإيجابية المشتركة للديانات الثلاث «اليهودية والمسيحية والإسلامية»، المحاضرة تمحورت حول «الإيمان الإبراهيمي»، والقيم المشتركة والإيمان بالله الواحد في الأديان الثلاثة، فالدين واحد والشرائع مختلفة. تصميم هندسي لمجمع الأديان المخطط تدشينه في جزيرة السعديات تصميم هندسي لمجمع الأديان المخطط تدشينه في جزيرة السعديات البيت الإبراهيمي.. رسالة عظيمة يقول الأب الدكتور رفعت بدر مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن: ننظر بعين التقدير والإعجاب لدولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة التي حولت التسامح من حبر على ورق إلى واقع معاش نفتخر به يومياً.. وأشار إلى أن مطلع هذا العام شهد الزيارة التاريخية قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية والإمام الأكبر فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر للإمارات، وإطلاق وثيقة الأخوة الإنسانية ذات الطابع العالمي وأيضا الإجراءات الخاصة بتسهيل بناء بيوت عبادة جديدة سواء للمسيحيين أو الهندوس، وجميعها خطوات رائدة من أجل نشر التسامح. الأب بدر وجد لدى زيارته للإمارات تطبيقا عمليا لما تنص عليه الدساتير من احترام حرية العبادة وتهيئة الظروف لتأدية شعائر العبادة، فلكل طائفة توجد كنيسة، مؤكداً أن هذا مصدر فخر للإمارات، ورسالة ينبغي تصديرها من الإمارات للعالم أجمع بأن حرية العبادة وشقيقها التسامح لا يستطيعان أن يمضيا قدماً دون التطبيق على الأرض، وهذا ما انتهجته الإمارات. اليوم نشهد- حسب الأب بدر- أول إطلالة لبيت العائلة الإبراهيمية، فأبناء إبراهيم هم المؤمنون من أبناء الديانات الثلاث الموحدة: اليهودية والمسيحية الإسلام. والمركز - أو البيت- الإبراهيمي الذي سينشأ في دولة الإمارات العربية المتحدة، رسالة للعالم بأن التآلف والوئام بين أتباع الأديان أمر ممكن، وأن للدين رسالة عظيمة في نشر قيم الإخاء والمساواة والاحترام المتبادل. وإلى جانب التجاور الحجري الجغرافي في دور العبادة للديانات الثلاث داخل البيت الإبراهيمي الجاري تدشينه، هناك أيضاً تجاور وجداني بين أتباع الأديان، فالأمر ليس فقط تجاور الحجر، بل تجاور البشر، من خلال التلاقي والاهتمام بلقاء الآخر الذي هو أخ وصديق وشريك في عبادة الله الواحد، وفي الإنسانية جمعاء.. فهنيئاً لدولة الإمارات هذا النهج الطيب وليته يصبح بالفعل مثلا يحتذى في كل البلدان. مواطنة ثقافة التسامح تظهر من خلال الاهتمام بدور العبادة، بطريقة تبث رسالة طمأنينة لدى أتباع الديانات وتعزز إحساسهم بالمواطَنة. وضمن هذا الإطار يرى الدكتور سامح فوزي الأكاديمي والباحث المصري في شؤون المواطَنة أن دور العبادة الخاصة بالأقباط في مصر شهدت طفرة كبيرة في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، وتلك قناعة لا تنطوي- حسب قوله- على أية مجاملة، فالأمر يتعلق بإحصاءات ومواقف وممارسات. وحسب فوزي، لدى الرئيس السيسي، إحساس عام بأهمية التنوع في بناء دور العبادة، ويظهر هذا جلياً من خلال حرصه على التأكد من وجود دور عبادة للمصريين جميعاً مسلمين ومسيحيين في كل مدينة جديدة أو تجمع سكاني، أو مشروعات جديدة، وفي أكثر من مناسبة يسأل المعنيين عن تنفيذ المشروعات الجديدة: أين الكنيسة؟ ويلفت فوزي الانتباه إلى الرمزية في هذه الرسائل فبناء كنيسة كبيرة ومسجد كبير في العاصمة الإدارية الجديدة، يعكس رسالة تسامح واضحة. وتشهد الحالة المصرية ممارسة جديدة، في مسألة دور العبادة، تتمثل في أن الدولة، في بعض الحالات هي التي تبني الكنيسة. وتعاملت الحكومة المصرية باهتمام مع القضايا العالقة في مسألة دور عبادة الأقباط، خاصة ما يتعلق بالأماكن غير المرخصة، ومن ثم تقنين وضع هذه الأماكن. ويشير فوزي إلى أن الرئيس السيسي لا يبني فقط الكنائس بل يزورها وهذا ما لم يقم به رئيس مصري قبله، فهو يذهب إلى المسيحيين ويهنئهم أثناء احتفالهم بأعيادهم داخل الكنيسة. السيسي أثناء زيارته كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة يوم 6 يناير 2019 السيسي أثناء زيارته كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة يوم 6 يناير 2019 مسار إنساني يرى الدكتور ذِكرُ الرحمن، رئيس مركز الدراسات الإسلامية في نيودلهي أن تقاليد التسامح الديني والتعايش في شبه القارة الهندية تخفف التوتر بين الهند وباكستان، ويمضي البلدان في تنفيذ خطط لفتح ممر «كرتاربور»، وهو ممر حدودي بين الهند وباكستان، يربط أضرحة السيخ المعروفة بـ «ديرة بابا ناناك»، في إقليم البنجاب بالهند مع معبد «دربار صاحب» في «كارتاربور» بإقليم البنجاب في باكستان. ويتيح الممر لحجاج السيخ القادمين من الهند العبور إلى باكستان دون تأشيرة دخول لزيارة الضريح. «ضريح كارتاربور» يُعد - حسب د.ذِكْر الرحمن، واحداً من أكثر الأماكن تقديساً بالنسبة لديانة السيخ. فقد بُني في المكان الذي توفي ودُفن فيه مؤسس ديانة السيخ «غورو ناناك» في القرن السادس عشر الميلادي. ويقع المعبد على بعد أربعة أمتار فقط من الحدود مع الهند. لكن الحجاج السيخ القادمين من الهند كانوا يواجهون صعوبات في الزيارة بسبب التوترات بين البلدين. وأعلنت باكستان أن الممر سيُفتح في التاسع من نوفمبر المقبل بعد توجيه عمران خان رئيس الوزراء الباكستاني باحياء الممر، وأنها ستسمح لـ 5000 زائر من السيخ بزيارته يوميا، مع زيادة العدد لاحقا إلى 10.000 زائر، وربما يخفف ممر «كارتاربور» التوتر الشديد بين البلدين، ويساهم في إحلال «الأمل والسلام» في شبه القارة الهندية. مسجد داخل الدير! ولفت توني كازامياس مستشار مطران دير سانت كاترين في جنوب سيناء أن وجود مسجد داخل سور الدير شيء رائع، وخير دليل على المحبة، وتجسيد واقعي للتسامح الذي تحث عليه الأديان السماوية الثلاث. فالديانة اليهودية لديها ما يرمز إليها داخل الدير من خلال «شجرة العليقة» حيث كلّم النبي موسى ربه، وكذلك البئر الموجود داخل الدير. والكنيسة تعبر عن المسيحية، والمسجد يرمز للإسلام، رسالة واضحة يرمز إليها الدير فحواها أن الأديان تتسامح مع بعضها من أجل السلام والمحبة للجميع.
مشاركة :