حلم البشر بالحرية والعدالة والمساواة هو حلم غائر في تاريخهم رافق الاستقرار والتمدن، وتعددت الممارسات التي تتوسل هذا الحلم وتحاوله، ولكنها في غالبيتها، كانت تستجيب لظروفها الزمانية والمكانية، والتي بدورها تحفظ الجماعة من عوامل الفناء والانقراض. على سبيل المثال واجه سكان الصحراء ظروفها البيئية الصعبة عبر شرائع التنظيم القبلي، فالقبيلة تصبح هنا وحدة مغلقة على ذاتها، تحميها انتماءات أعراف ونعرات تحفظ أفرادها من الفناء في مواجهة محيط محتشد بالتهديدات من الغرباء المنافسين على الموارد البيئية الشحيحة. تجذر النظام القبلي في جزيرة العرب بحيث أصبح السمة الأبرز لسكانها، فكانت كتب التاريخ والرحالة تصف المكان دوماً بأنه موطن لقبائل رعوية مرتحلة وراء الماء والكلأ، منعزلين عن محيطهم داخل الجزيرة العربية حتى إن الشاعر الأموي جرير يتغزل بصحراوية نساء الجزيرة عبر تصوير بعدهم عن الماء أو أكل السمك في الحواضر العربية بقوله: عرابا لم يدن مع النصارى ولم يأكلن من سمك القراح وكان هناك في المقابل لهؤلاء العرب المستقرون سكان المدن، والذي يتطلب منهم ظرفهم المدني ترسيخ علاقات مع الغرباء والوافدين، فإن كان الغريب جالباً للموت ومنافساً على المورد الشحيح في الصحراء، فإنه في الحاضرة المدنية، قد يكون على العكس إما تاجراً أو صاحب حرفة، أو طالب علم أو أيّ... ممن سيضيف للمكون الاجتماعي المدني ويغنيه ويثريه. وظلت هذه العلاقة المشدودة بين الأعراب وسكان الحواضر المدنية متوترة عبر التاريخ، ولعلها كانت التحدي الأبرز الذي واجه موحد المملكة الملك عبدالعزيز في العصر الحديث، فكان يحدس أن النسيج السكاني المتفاوت الثقافات والتاريخ، يشكل ثراء وغنى وزخماً لمملكته الفتية آنذاك. الوحدة الوطنية هي غدنا ومستقبلنا، هي سلسلتنا الذهبية التي مررها لنا المؤسس ضد جميع الطروحات والنعرات الصحراوية، وحدتنا المقدسة تظل خارج نطاق المزايدة أو المماحكة، فإن كان مركز الحوار الوطني الذي أسسه الملك عبدالله -رحمه الله - أحد صورها الخضراء، فردة الفعل السريعة التي قام بها الملك سلمان -حفظه الله- ضد طروحات تغمز في الوطنية والانتماء هي من أجمل تجلياتها، بشكل يجعل منها خطاً أحمر ملتهباً لا يمس. ومشهد قبائل يام في نجران عندما هبت باحتفائية مضيئة لتستقبل كتائب الحرس الوطني وهي في طريقها لحماية بوابة الوطن الجنوبية لا يوازيها جمال إلا إدراج أبناء الوطن المؤهلين رفيعي التعليم والخبرة في مناصب عليا يخدمون عبرها أوطانهم في أرامكو. بالتأكيد نزعات التطرف والتعصب لم ولن تندثر بعصا سحرية، حتى ولو كان حلمنا شاسعاً، بل ستظل تطل برأسها بين الحين والآخر، فهي متجذرة قديماً في عمق التاريخ، وثقافة البر/ البحر، المدنية المستقرة/ والترحال، ستظلان في حالة تجاذب. ليظل الحلم الأسمى هو حلم الدولة المدنية الدستورية الحديثة، التي تصبح فيها قيم المواطنة هي المرجعية الأولى للعدالة والحرية والمساواة، وهي بلا شك المآل الذي سيحمي وحدتنا المقدسة -بإذن الله-. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net
مشاركة :