تعود بي الذاكرة إلى نهاية السبعينيات الميلادية، عندما كانت حكومة عمّالية بزعامة جيمس كالاهان، ففي تلك الحقبة ظهرت داخل الحزب مجموعة منشقة عن الأدبيات الأساسية لحزب العمّال، وحملت معها اسمًا مثيرًا هو «النزعة القتالية Militant Tendency»، ومثّلت هذه المجموعة الصغيرة رؤى لأقصى اليسار في الحزب العمّالي، وهدفت هذه المجموعة إلى تشكيل تيار يمتلك القوة والتأثير من خارج البرلمان في توجهات الحزب واختيار زعيمه الذي سيصبح تلقائيًا رئيسًا للوزراء في حال فاز حزب العمّال بالانتخابات، وقد حارب حزب العمّال هذه المجموعة وأفكارها، لما انطوت عليه من خروج على الأعراف البرلمانية في بريطانيا، ورغم أن الحزب أفلح كثيرًا في تحييد هذه المجموعة لزمن طويل، إلا أن أدبياتها ظلت كامنة لدى بعض السياسيين، مما أدى إلى ظهورها مؤخرًا، ليس على أيدي جماعة من حزب العمّال، بل من حزب المحافظين المنافس، حيث تبنّت مجموعة من أقصى اليمين هذا التوجه الهادف إلى خلق تيار موازٍ للبرلمان، وتوجيه دفّة القرار والسياسة بعيدًا عن أروقته، ومظهر ذلك تجلى في المحاولة الأخيرة التي قادها رئيس وزراء بريطانيا الحالي بوريس جونسون، وسعيه نحو تحييد دور البرلمان، وصرفه في إجازة لتعطيل مهامه، بما يمكنه منفردًا من إنفاذ خطته في الخروج من الاتحاد الأوروبي بطريقته دون اتفاق، الأمر الذي وجد المعارضة من قبل مجلس العموم البريطاني.. ولهذا أحدث قرار جونسون بتعطيل عمل البرلمان هزّة سياسية قوية، امتدت إلى أروقة المحاكم في سجال انتهى إلى بطلان قراره، وعودة البرلمان إلى العمل مرة أخرى، بما يفتح الباب أمام احتمالات عديدة ستشهدها الساحة السياسية البريطانية في ظل وجود رئيس وزراء لا يلتزم بأدبيات السياسة البريطانية المعروفة على مر الحقب والسنوات. يضاف إلى ذلك السلوكيات الخاصة عند جونسون في تعامله مع الآخرين، فلقد أخطأ في مخاطبة رئيس البرلمان والمتحدث باسم مجلس العموم، وقد سعى هذا الأخير بلغة مهذبة في ردع جونسون عن التلفّظ بكلمات خارج عن مألوف العمل البرلماني؛ مثل كلمة «كذّاب»، وهي لم تسمع من قبل في سجلات المجلس. ولقد صرّح المتحدث باسم مجلس العموم بأنه أمضى ما يقرب من 22 عامًا في البرلمان، لم يشاهد خلالها مثل ما يجري الآن من خروج على المألوف، وخصوصًا من جونسون وأنصاره. وكذلك فعل النائب العمّالي المحسوب على أقصى اليسار في نقد الطريقة التي تعامل بها جونسون وبعض من أنصاره؛ بل الأدهى من ذلك أن نائبة في المجلس بكت أمام الصحفيين لأنها تلقت تهديدًا من أشخاص مجهولين بالقتل إذا لم تصوّت لصالح جونسون، وأنها اضطرت إلى أن تصحب أبناءها إلى المدرسة صباحًا خوفًا على حياتهم. وليست هي الوحيدة التي تتلقى التهديد بالقتل؛ فقد نقلت إذاعة «البي بي سي ون BBCl» تصريحات لنوّاب آخرين وصلتهم ذات الرسائل التهديدية مما يدلل على فظاعة الأمر، حتى اضطر رئيس الوزراء السابق جون ميجر للخروج ونقد الحزب في مرحلته الراهنة، قاصدًا بذلك الأسلوب غير الحضاري وغير المألوف من قبل جونسون ومعاونيه. وإذا كان الإنجليز في الماضي يتخوّفون من صعود تيار اليسار في حزب العمّال؛ فإن الأمر انعكس الآن تمامًا حيث أصبح الشارع البريطاني متخوّفًا من صعود جونسون ووصوله إلى ذروة العمل البرلماني، وليس بمستغرب أن يحظى جونسون بمباركة من قبل أقصى اليمين في الولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصًا من الرئيس الحالي دونالد ترامب، الذي حمّلته بعض المؤسسات الأمريكية ما حدث من اعتداءات على مواطنين على خلفية أعراقهم أو ألوانهم. إن من المهم أن يتفطّن الغرب إلى بروز هذا التيار المتطرّف، وسعيه نحو امتلاك القرار والنفوذ، فالمخاطر العظيمة التي تنطوي على أدبيات هذا الفكر ستكتوي بها المجتمعات الغربية، وسيمتد أثرها إلى البقية، وتكفي الإشارة إلى ما أحدثه توجه الرئيس الأمريكي ترامب، من استنهاض لخطاب الكراهية، المتلبّس بثوب العنصرية العرقية والدينية والمذهبية، وهو خطاب متى ما وجد السند السياسي والتنفيذي سيكون كارثة على الإنسانية كلها.
مشاركة :