في الستينات من القرن الماضي كانت الخلافات العربية، رغم عدم الموافقة على طبيعة ونمط الخلافات التي أثارتها، لكنها تنشب حول مشروعات طموحة، أما اليوم فالأمر مختلف تمامًا، إذ تقزمت الخلافات دون أن تفقد حدتها، بل ربما تفاقمت سلبياتها، ومن ثم تداعياتها. وتحولت مكونات المشروع العربي إلى ما يشبه الفطريات الطفيلية الذي أصبحت تمزق نسيجه الحيوي خلافات فقدت الكثير من مبرراتها، إن لم يكن أسبابها. ولَّد كل ذلك فراغًا، ربما لا يكون ملموسًا لدى البعض، لكنه يترك آثاره العميقة، على مسار العلاقات العربية - العربية وآفاقها. فهناك فراغ كبير يبحث عن مشروع عربي يملأه. تزداد الحاجة لمثل هذا المشروع وسط تلاطم أمواج محيطات المشروعات الخارجية، الإقليمية منها والدولية، المناوئة لذلك المشروع، والتي لا تكف عن تضييق الخناق عليه، والعمل على إنهاك القوى العربية التي تقف وراءه، لأن من يقف وراء تلك المشروعات يدرك أن ليس هناك ما يمكن أن يقزم مشروعه أكثر من بروز مشروع عربي متمرد عليه، وغير خاضع لشروطه. وعليه، فإن غياب المشروع العربي الشامل، بأبعاده الاستراتيجية والقومية يضع البلاد العربية أمام تحديات تلك المشروعات المتربصة بهم، وبمشروعهم: يتصدر قائمة تلك المشروعات، التحدي الصهيوني، الذي يخفي تحت جبته المشروع الاستيطاني اليهودي، الذي يشمل المنطقة العربية من «النيل إلى الفرات»، والذي لا يستطيع الانتعاش في ظل مواجهته بمشروع قومي متكامل. ومن ثم فغياب هذا الأخير يفسح في المجال، أمام العدو الصهيوني كي ينفذ بمهنية عالية سياسة القضم القائمة على اقتطاع متواصل، ولو بشكل بطيء، وبجرعات صغيرة، لكنها مستمرة. ومن يراقب سلوك الكيان الصهيوني منذ نشأته في 1948، يلمس تلك السياسية الصهيونية، ويدرك أيضا، أنها تنتقل من سياسة الدفاع والتمترس، إلى استراتيجية القضم والتوسع، فقط في مراحل التمزق العربي، والتشرذم التي شهدناها خلال السبعين سنة الماضية. ومن ثم فغياب المشروع العربي، يفتح شهية الكيان الصهيوني، ويشجعه على المضي في سياسة القضم التي نتحدث عنها. يتكامل ذلك التحدي مع صنوانه الإقليمي الخارجي، الذي تمثله دول مثل تركيا وإيران، التي ترى في تشرذم العرب فرصة تاريخية سانحة، تسمح لها إما بقضم ما يمكن قضمه من الأراضي العربية، أو التسلل خلف قوى طائفية، وأخرى فئوية، تنقاد بشكل أعمى وراء طائفيتها أو فئويتها، حتى وإن كان ذلك الانحياز الأعمى يقود إلى التضحية بالوطن، على مذبح الولاء الطائفي، أو تحت أقدام الانتماء الفئوي. تؤكد صحة ما نقول ما تشهده الساحة السورية من أحداث تقسيمية، وتتحدث عنه ما تمر به الساحة العراقية. ويشكل كل ذلك تحديًا خارجيًا لا يستطيع التشرذم العربي أن يملك مشروعًا مواجهًا قادرًا على ردع طهران، وكف يدي أنقرة. ويعزز سلبيات ذلك، التحدي الخارجي الدولي، والذي بات يصدر من دول مصنفة في خانة الحلفاء مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الأوروبية، بمن فيها دول صديقة مثل فرنسا، وألمانيا، بل وحتى بريطانيا. ولعل في مواقف تلك الدول من الهجوم الذي تعرضت منشآت النفط السعودية، الكثير من الحكم التي تكشف عدم جدية ادعاءات الصداقة التي تروج تلك العواصم الغربية عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي العربي. ولن تغير تلك القوى من مواقفها، ما لم يكن هناك مشروع قومي عربي، يصهر مكونات القوة العربية في بوتقة واحدة، تشكل هي في جوهرها الرادع الأقوى في وجه تلك التحديات التي تثيرها مواقف تلك الدول من الصراعات الدائرة فوق ساحات دول عربية. أما على المستوى الداخلي، الذاتي، فهناك التحدي الوحدوي، إذ تتحول المشروعات الوحدوية، إلى ما يشبه الحكايات الأسطورية التي تقترب من الخيال. وتنتعش الدعوات التقسيمية، وتزدهر المشاريع ذات الصبغة القطرية. وتتطور الأوضاع في اتجاه سلبي، وتصبح الصورة قريبة جدًا مما رسمها الكاتب سيّار الجَميل، في مقالة نشرها في مجلة «الفيصل» السعودية، وجاء فيها «إن مأساة العرب اليوم ومحنتهم التاريخية تبدو للمؤرخ بنيويةً عمياءَ يستعصي حلّها؛ إذ تتشكّل من هياكل صعبة جدًّا، وهي: شمولية الحياة المعيشية، وغياب الحرّيات، مع استفحال التشبّث بالسلطة، وقهر الإبداع وانعدام فرص نضوج المبدعين، وتفاقم الإرهاب باسم الدين والنزول من سماحته إلى المعتقدات الرخوة، وغلبة الأساطير والخزعبلات، ومحنة الطوائف والملل والأقليات التي غدت تناحر الأغلبيات ردًّا على ثارات سيكولوجية قديمة، وكأنّ مجتمعاتنا لم تعرف التعايش والوئام منذ آلاف السنين». يتفاعل ذلك، وفي اتجاه سلبي مع التحدي الأمني، وهو تحدٍ شامل لا يستثني أحدًا من أي من البلدان العربية، بغض النظر عن طبيعة الحكم فيها. ويعتبر الكثير من الكتاب العرب، ومن بينهم د. علي سيد إسماعيل، في كتابه «الأمن القومي العربي: واقعه وآفاقه في ظل التحولات الاقتصادية العالمية المعاصرة»، ما يشير صراحة، وبموضوعية، منطقية واضحة، إلى «أن التشرذم العربي، والصراعات المتتالية بين بعض الدول العربية وبعضها بات يهدد الأمن القومي العربي برمته، بالإضافة إلى استمرار الغطرسة الإسرائيلية والاحداث المتكررة في فلسطين... ولا تظن أية دولة أن بإمكانها تحقيق أمنها بمعزل عن الأمن العربي القومي الشامل، ولن يتحقق ذلك إلا بقيام العلاقات التكاملية والدفاعية التكاملية والدفاعية بين دول الوطن العربي». مثل هذه النتيجة وردت أيضًا في حديث نبوي شريف يقول «عليْكم بالجماعةِ فإنَّما يأْكلُ الذِّئبُ القاصيةَ». في اختصار، في ظل الظروف العربية القائمة، وتلك الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بها، والمتربصة بمستقبلها، لم يعد المشروع العرب مطلبًا رفاهيًا، بل تحول إلى حاجة ملحة.. وبالتالي فعلى هذا الجيل العربي الممسك بزمام الأمور العربية لليوم أن يدرك هذه الحقيقة، ويشرع، بصدق وتفان، في بناء مشروعه العربي المعاصر، الطموح، القابل للحياة، والمؤهل لمواجهة تلك التحديات، والقادر على نقل العرب من حالتهم المتردية غير اللائقة بهم، إلى تلك التي تضعهم في مصاف البلدان التي تسير في مقدمة العالم لا في دبره.
مشاركة :