يُعد ملتقى الشارقة للسرد واحدًا من أبرز الملتقيات والمؤتمرات النقدية العربيّة الرصينة، ويمتازُ هذا الملتقى النقديّ بالذات في استثنائيته القائمة على استقطاب أبرز القضايا والإشكاليات النقدية الكبرى للسرد العربيّ الحديث وخاصة الرواية العربيّة المعاصرة. والاستثنائي أيضًا في هذا الملتقى النقدي أنَّه وقبل حوالي ثلاث سنوات انطلق من الشارقة الإمارة الثقافيّة العربيّة المتوهِّجة بتألقٍ إلى العواصم العربيّة، ليحملَ رسالة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسميّ حاكم إمارة الشارقة، عضو المجلس الأعلى لاتحاد دولة الإمارات العربيّة المتحدة. وهي الرسالة التي تؤمن بدور المثقف العربيّ في إحداث التغيير الإيجابيّ في مجتمعه وفي العالم من حوله. وليس هذا بغريبٍ على سموه وهو الحاكم العربيّ المثقف الذي جعل الثقافة واحدة من أبرز رهاناته واشتغالاته في صناعة المستقبل. وهكذا كانت انطلاقة ملتقى الشارقة للسرد من الأقصر إلى الرباط والآن عمّان.. مدن ثقافية عريقة وملهمة في الفعل الثقافيّ والتأثير. انعقد ملتقى الشارقة للسرد في دورته السادسة عشرة وعنوانه «الرواية التفاعلية، الماهية والخصائص» في العاصمة الأردنية عمّان (17_20 سبتمبر 2019)، وهو الملتقى الذي تنظمه وتشرف عليه دائرة الثقافة في إمارة الشارقة تنفيذًا لتوجيهات الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسميّ لرعاية المشهد السردي العربيّ، والاحتفاء بالتجارب الإبداعية العربيّة التي تستشرف المستقبل من خلال صناعة العصر الرقميّ الذي دخلنا معه الآنَ الثورة الرابعة في عصر التكنولوجيا. وقبل أن أتحدث عن مجريات هذا الملتقى النقدي المهم لا بد من شكر القائمين عليه الذين اشتغلوا منذ سنوات عدة على تأسيسه بعشق وشغف وجهود كبيرة في سبيل استمراريته، وهم سعادة الأستاذ عبدالله بن محمد العويس رئيس دائرة الثقافة بحكومة الشارقة الذي بذل جهودًا كبيرة في تنظيم هذا الملتقى النقدي الرصين، والشكر موصول كذلك إلى سعادة الدكتور عبدالفتّاح صبري المنسق العام لملتقى الشارقة للسرد لجهوده الكبيرة في التنسيق العام لهذا الملتقى وتأسيسه منذ سنوات عدة، وإكسابه صيتًا نقديًا عربيًا رصينًا من خلال استقطاب كوكبة من المبدعين والنقاد العرب وكذلك النقاد والمستعربين والمستشرقين من مختلف بلدان العالم. والشكر موصول كذلك للأستاذة نورة صالح السركال والأستاذة عائشة الهاشمي والأستاذ مروان السيد فتحي النيلي لجهودهم الرائعة في التنظيم والتنسيق والتواصل الثقافي وإلى القائمين على هذا الملتقى جميعهم. والشكر موصول كذلك إلى وزارة الثقافة الأردنية على جهودها التنسيقية الرائعة في الاستقبال وحفل الافتتاح. شارك من مملكة البحرين ناقدان هما الناقد الدكتور فهد حسين الذي قدّم ورقة نقدية عنوانها «الرواية التفاعلية وأثرها في الرواية التقليدية (ذهنية تلقي النص الروائي التفاعلي)». وقد أدارت الناقدة البحرينية الدكتورة ضياء الكعبي جلسة الطاولة المستديرة «الأدب التفاعلي، إشكالية المصطلح، المفهوم، الأجناس التفاعلي»، وضمت الجلسة كلاً من الناقدة المغربية الدكتورة زهور كُرام من المغرب والناقد التونسي الدكتور محمد آيت ميهوب من تونس والناقد العراقي الدكتور مشتاق عبّاس معن من العراق. و(الأدب التفاعلي) كي أعرفه إلى المتلقي هو الأدب الذي يستخدم الوسائط الإلكترونية الحديثة، ويتم بالمشاركة بين المؤلف الرقمي والمتلقي الرقمي الذي له مساحة إبداعية لا تقل عن المؤلف، وبذلك ينتج نص قائم على الشراكة بين الاثنين، وفي هذا خروج كبير على مفهوم الرواية التقليدية أحادية المؤلف (المبدع). وقد أثارت جلسة الطاولة المستديرة أسئلة في غاية الأهمية عن المفاهيم والمرجعيات النقدية وخاصة الحديث عن ضرورة توفر «الوعي الرقمي» الذي أثاره كلّ من الناقد المغربي الدكتور سعيد يقطين والناقدة المغربية زهور كرام. ففي كتابه «النص المترابط، ومستقبل الثقافة العربية (نحو كتابة عربية رقمية) (2008) أثار الناقد المغربي الدكتور سعيد يقطين رهانًا عربيًا كبيرًا» سيتزايد تأخّرنا التاريخي إذا لم يساهم المثقفون في الوعي بأنه هناك «فجوة رقمية»، وبأنَّ عليهم العمل على ردم هذه «الفجوة الرقميّة» التي لا يمكنها إلا أن تزداد اتساعًا مع الزمن المتسارع الخطى. يقول الدكتور سعيد يقطين: «إنَّ دخول العصر الرقمي يفترض التلاؤم مع مختلف إنجازاته برؤية واضحة واستراتيجية بعيدة المدى، ومعنى ذلك، بتعبير آخر هو أننا بدأنا «ندخل» عالم الرقميات ولكننا محملون بذهنية ما قبل رقمية وفي غياب وعي رقمي. يتعين علينا لدخول العصر الرقمي والتلاؤم معه العمل على الارتقاء إلى المرحلة الرقمية. لا يمكننا الحديث عن مرحلة رقمية في الإنتاج والتلقي من دون حضور وعي رقمي، ورؤية وفلسفة رقمية للأشياء والعالم. ودون تحقيق: كيف نعيش عصرنا؟ كيف يمكننا أن نفكر رقميًا؟ كيف يمكننا أن نكتب رقميًا. إنَّ رهان الثقافة العربية ومستقبلها موصولان باقتحام العصر الرقمي بوعي جديد وبرؤية جديدة. أما العيش ذهنية تقليدية فلن يسهم في تطورنا البتة. لا بد من تجديد الذهنية واللغة والكتابة وطرائق التفكير». وفي كتابها «الأدب الرقميّ، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيميّة» (2009) أثارت الناقدة المغربية الدكتورة زهور كَرام الثقافة الرقمية، حالة وعي يتشكَّل بقولها إنَّ كلَّ ممارسة إنتاجية جديدة للفكر والثقافة والإبداع تثير تساؤلات حول شرعية إجراءاتها، ومدى قدرتها/ فعاليتها على خلق مساحة أوسع لتفجير طاقات التفكير والخلق. وهي تساؤلات يحصنها مبدأ فلسفيّ، يعتبر كلَّ انتقال حضاري، هو بمثابة انتقال في أسئلة الواقع ثم في وسائل التفكير في الواقع. وهو مبدأ يعزِّز فكرة البحث المستمر لدى الإنسان على أكثر الإمكانات الوسائطية، التي تسمح له بالتعبير عن تصوّره للعالم، ورؤيته للوجود». ومن الأسئلة التي أُثيرت في جلسة الطاولة المستديرة: هل يشكّل الأدب التفاعليّ العربيّ صيرورة تحولات كبرى جديدة لدى المتلقي العربيّ في تصوراته للعالم والوجود؟ مرَّت الآن حوالي ثماني عشرة سنة على إنتاج أول نص عربيّ تفاعليّ هو نص «ظلال الواحد» للروائيّ الأردنيّ التفاعلي محمد سناجلة، (2001) التي يمكن أن نعدها أول (رواية تفاعلية) عربية نشرها على موقعه الخاص على الشبكة العالمية. يقول سناجلة عن تجربته في الإبداع التفاعلي «في عام 2001 انتهيتُ من كتابة روايتي (ظلال الواحد) التي استخدمت في بنائها تقنية links المستخدمة في بناء صفحات الويب، وقمتُ بنشرها رقميًا على شبكة الإنترنت من غير مساعدة من أحد، وبعد ذلك بقليل قام روائي هندي بكتابة رواية أخرى باستخدام التقنيات الرقمية المستخدمة في بناء البريد الإلكتروني، ولست أدري إن كان هنالك آخرون غيرنا قد استخدموا تقنيات أخرى في الكتابة الروائية، ولكم أن تتخيلوا الصيغ والأشكال الأخرى التي لم تستخدم بعد». وتلت نص سناجلة بعض النصوص التفاعلية العربية، ولكنها لاتزال حتى الآن في حكم القلة، فهل تسمح هذه النصوص بالقول بأنَّنا على أعتاب تشكل مفهوم جديد للأدب ولمنتجيه ومتلقيه؟ الأدب الرقمي هل هو استمرار أم انقطاع (قطيعة) في نظرية الأدب المكتوب؟ في الأجناس الأدبية دائمًا يحال إلى أرسطو وكتابه «فن الشعر». ماذا عن مرجعيات الأدب التفاعلي؟ مع تشكلات الأجناس والأنواع الأدبية دائمًا نصطدم بقضايا المفاهيم والمصطلحات وتحديدها الإجرائي المنهجي الدقيق وفقًا لسياقاتها الفلسفية والمعرفية والفكرية والثقافية فضلاً عن شروط إنتاجها المغايرة للأجناس والأنواع الأدبية السابقة. إن مفاهيم الأدب الرقمي (الأدب الإلكتروني، الأدب الرقمي، الأدب التفاعلي) ماتزال ملتبسة وغامضة من حيث الاشتغال، ليس فقط في التجربة العربية، وإنَّما أيضًا في التجربة الغربية وذلك لكون تجربة الأدب الرقمي حديثة العهد. ولهذا لا ننتظر ثباتًا في التحديد المفهومي، لأن ذلك يحتاج من جهة إلى تراكم النصوص، ومن جهة ثانية إلى نشاط حركة النقد. إنَّ التفكير في الأدب الرقمي من خلال استحضار الأبعاد المعرفية والبنائية والنقدية والفلسفية لنظرية الأدب في إطاره الشفهي أو المطبوع ورقيًا، مسألة يفرضها التصوّر الفلسفي للأدب في بعده الجمالي المعرفي وفي بعده التقني الأسلوبي المرتبط بالخطاب في الترجمات العربية لدينا الكثير هل استقام المصطلح الذي يحدِّد النص التخييلي في الأدب الرقمي في التجربتين الأمريكية والأوروبية (تفاعلي، مترابط، رقمي، إلكتروني، معلوماتي، تشعبي..الخ)؟ كيف نستطيع عربيًا التخلص من فوضى المفاهيم والمصطلحات غير المستقرة لهذا النوع الجديد من الأدب؟ هل اختلاف المرجعيات النقدية الغربية التي يعود إليها النقاد العرب سبب في خلق هذه الفوضى؟ أم بسبب عدم استقرار المصطلح غربيا؟ هل بإمكاننا أن نتحدث عن إضافات عربية نقدية في هذا النوع من الأدب أم سنقتصر فقط على حالة الإبداع العربي دون النقد؟ ما الأدب التفاعلي؟ ما شروطه؟ ما خصائصه؟ من هو المؤلف التفاعلي من هو المتلقي التفاعلي؟ هل يكفي أن ننتج نصًا باعتماد الوسائط الرقمية (الكومبيوتر، وسائط التواصل الاجتماعية مثل التويتر والفيس بوك والانستغرام) حتى يتحقّق النص الرقمي؟ ما الذي يمنح للتجربة الجديدة شرعيتها الإبداعية؟ اشتمل ملتقى الشارقة للسرد في دورته السادسة عشرة على تقديم هو مدخل عنوانه (الرواية التفاعلية، الماهية والخصائص) من خلال المدخل(الثورة الرقمية والإبداع، التحديات والآثار)، ترأس الجلسة الأستاذ الدكتور زهير عبيدات، والمتحدث الرئيسي هو الناقد الدكتور سعيد يقطين، والمعقِّب الأستاذ الدكتور عماد الضمور، وفي الفترة المسائية كانت هناك الطاولة المستديرة (الأدب التفاعلي، إشكالية المصطلح، المفهوم، الأجناس التفاعلية). وترأست الجلسة الدكتورة ضياء الكعبي، والمتحدثون هم:الدكتورة زهور كرام والدكتور محمد آيت ميهوب والدكتور مشتاق عبّاس معن. وفي اليوم الثاني دارت الجلسة الأولى حول محور ماهية الرواية التفاعلية، وترأست الجلسة الروائية الإماراتية الأستاذة فتحية النمر من الإمارات، والمتحدثون هم: الناقدة الإماراتية الدكتورة فاطمة البريكي من دولة الإمارات العربية المتحدة والدكتورة عائشة الحكمي من المملكة العربية السعودية والناقد المصري الدكتور السيد نجم من مصر. ودارت الجلسة الثانية حول موضوع (بنية السرد في الرواية التفاعلية)، وترأس الجلسة الناقد المصري الأستاذ الدكتور صلاح فضل وشارك في الجلسة الدكتور رشيد الإدريسي من المغرب والدكتورة ريهام حسني من مصر والدكتورة رزان إبراهيم من الأردن. واشتملت الجلسة الثالثة على شهادات ورؤى لكل من محمد سناجلة من الأردن والروائي الإماراتي عبدالله النعيمي من الإمارات، وقد ترأست الجلسة الروائية الإماراتية لولوة المنصوري. واشتملت الجلسة المسائية على محور (الرواية التفاعلية، التقنيات والأبعاد الجمالية)، وقد ترأس الجلسة الروائي السوري نبيل سليمان، وضمَّت الجلسة كلاً من الناقدة المغربية الدكتورة لطيفة لبصير والدكتور نضال الشمالي من الأردن وسيد الوكيل من مصر. وفي اليوم الثالث للملتقى دارت الجلسة الأولى حول المحور الرابع للملتقى وهو (الرواية التفاعلية والنقد الرقمي)، وترأس الجلسة الأستاذ عادل خزام من الإمارات وشارك فيها الناقد العراقي الدكتور صالح هويدي من العراق والناقد الأردني الدكتور مصلح النجّار والدكتور محمد هندي من مصر. ودارت الجلسة الثانية من اليوم الأخير للملتقى حول مفهوم (الرواية التفاعلية وأثرها في الرواية التقليدية)، وترأس الجلسة الدكتور محمد الأمين مولاي إبراهيم من موريتانيا، وشارك فيها الناقد البحريني الدكتور فهد حسين والدكتور أحمد فضل شبلول من مصر، والناقد الكويتي الدكتور فهد الهندال. وقد تضمّنت الجلسة الثالثة من اليوم الأخير شهادات ورؤى، وترأس الجلسة الناقد الكويتي الدكتور فهد الهندال، وضمّت الجلسة كلاً من الروائي المغربي التفاعلي عبدالواحد استيتو من المغرب، والروائية الإماراتية التفاعلية صالحة عبيد. ملتقى الشارقة للسرد في دورته السادسة عشرة وبمقاربته موضوع «الرواية التفاعلية العربية» نجح نجاحًا كبيرًا في جعل السرد العربي والنقد العربي المعاصر يلتفت بقوة إلى «الرواية التفاعلية»، ونجح كذلك نجاحًا كبيرًا في إثارة إشكاليات إبداعية ونقدية متصلة بالمفاهيم والمصطلحات والتطبيقات، وأعتقد أن هذا الملتقى سيكون بمثابة المرجعية الأساسية للباحثين والنقاد في مجال الأدب التفاعلي العربي. لقد كانت القاعة ممتلئة في أيام الملتقى جميعها بالنقاد والمبدعين من مختلف أنحاء الوطن العربي وكذلك بعض النقاد العالميين، وكانت القاعة مشتعلة بالمقاربات والمداخلات العميقة التي إن دلت على شيء فإنَّما تدل على عمق الرؤية النقدية والفكرية في هذا الاختيار العميق والذكي من قبل القائمين على ملتقى الشارقة للسرد. إنَّ اختيار موضوع «الرواية التفاعلية» سيضع الإبداع والنقد العربي في هذا المجال في نطاق العالمية، نحتاج فقط إلى تطوير الاشتغالات الإبداعية والنقدية والمشاركات العالمية في الملتقيات العالمية الخاصة بالأدب التفاعلي، وأنا متفائلة جدًا بحصول مثل هذا التداول والتلاقي والتأثير في القادم من السنوات. شكرًا من أعماق القلب لملتقى الشارقة السادس عشر للسرد الذي أعده بصراحة واحدًا من أهم الملتقيات النقدية العربية في تأثيره وفي اشتغالاته الجادة. أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين. dheyaalkaabi@gmail.com
مشاركة :