قالت في لحظة صدق: لماذا تتخفّى وراء وقار مزيف لا معنى له إلا الهروب من مواجهة الذات المرهقة بمعاني الحزن والضعف اللذين أعرفهما جيدا، وتغطيها بالصمت بالرغم من ذلك الصوت الذي يناديك فترده خائبا كل مرة؟ قال لها وهو يهم بالهروب من مواجهة السؤال: هذا الصوت يناديني، يسرقني من نفسي، يعلن أن تعال قبل فوات الأوان، وما من أحد يستطيع أن يناديني مثله، أن أعلن عن مأساة اللحظة المعلنة. ولكني لا أقوى على الاستجابة. ملقى بين السماء والأرض. قالت: هذا الجواب هروب آخر ترتكبه فيقتلني، كن صموتًا كما تريد، واحجب نفسك عن نفسك كما تريد، ولكن دع أحلامك وأشواقك تشرق حتى لا تغرب في حنايا قلبك، اطرح كنوزك جانبًا، حتى تتمكن نجوم الليل العميق من النفاذ في بهجة إلى روحك! قال متجاهلا التورية في كلامها: كيف يستطيع الفؤاد المعنّى -يا صديقتي- أن يجد الكلمات الصامتة في لحظة الغياب؟! كيف نكون مجدوبين مأخوذين بتلك الصورة العالقة المعلقة الهاربة، وبذلك الصوت المهرب في ثنايا الأثير، حتى كأننا خارج نطاق المكان والزمان ونحن مشدودون الى عالم الطين والماء!؟ كيف يستطيع الواحد أن يقرأ ما يجول بعقل غيره من دون قراءة، وأن يعرف ما به تعيش وما به تحيا وتموت مثل تلك اللحظة الهاربة من بين يديك، كأنه الرمل ينساب بين الأصابع؟ قالت محتجة: تلك اللحظة ليسَت سوى أكذوبة -يا صديقي- إذا تحركت، عكَّرَت ماء الجدول الصافي المنساب في صمت تحت أشعة بنفسجية، فاغتد على أحلامِك، ولا تحرك ساكنًا، عش داخلك، فهناك عالم بأكمله من الوجود يموج داخل الروح الراسخة كعالم من الفكر، والأفكار المسحورة، غير أن الضوضاء التي تنبعث من الخارج تصيبها بالصمم. ووهج النهار يصيبها بالعمى، فتنقطع، أغانيها. قال لها وقد ازداد حزنه اشتدادا: أواه، يا صديقتي اصمتي قليلاً حتى أرى! قالت غاضبة: إنك تعيش خارج الزمان والمكان، تعبث بالكلمات هربًا من مواجهة الأرض التي تدور، فتنقلنا من الليل إلى النهار، ومع دورانها تدور الدوائر علينا، فانتبه أيها الغافل في ظلال الوهم! رد غاضبًا على تماديها في الاتهام: لقد درجت على الحلم، فأمشي على السحاب وحيدًا، مع الغيوم الراحلات، تمزق ستائر اللحظة، ضوء الشمس لا يكفيني، لأنه لا شيء يحدث على الأرض غير صدى في القلب، حين تزهر البراعم، وحين الحياة تنطفئ ويبقى الصدى في الذاكرة بحجم الجليد، تسبح فيه الفصول، تسكنه بيوت المحزونين، حين تنتظر ساعات الشوق، وحين يغني العشاق في العالم غبطتهم المهاجرة وأنت الجالس وحيدا على الضفة الأخرى. كل شيء -يا صديقتي- يذهب سدى، يصل ويرحل، حينها تبحث في الليل الغريب الطويل، مثل طائر حزين، يغفو قرب وجوه لا تعرفُ سوى عبادة الساعات! تمضي مثل غيمةٍ فوق الجبال، وكانت الجبال القلب والمنتهى! قالت وقد اشفقت عليه من الحزن يقتله حيًّا: أقرأ في وجهك الصخب، وهذا الفم داخل الوجه يبدو رسمًا كالمحنة السرمدية، وهذا الصوت الضعيف يشبه الهواء يجري، فلا أراه. إنك تهذي كقطار منتصف الليل، فما يفصلك عن الجنون سوى خيط اللغة. قال لها: أواه أيتها الصديقة اصمتي حتى أراك. لقد أتعبتني اللغة وخيوطها وألاعيبها، وباتت تفصلني عنك وتفصلك عني. يفصلني عنك سرب من طيور المساء، عيون ترحل في ساحة البوح بلا شرفات. يفصلني عنك نجم يخيط رتوق الظلام بلا أجنحة. مطر أجل انعكاس السماء لحظة البوح. غيوم حفرت طرقًا للكلمات. سرب من سنين، يحجب صوت الماء عن الماء. ذاك الشتاء الطويل يحوك أسماله حول القلوب. سجاد حزني وماء يرتق فواصل الروح بيننا. غياب الاشتهاء وطول انتظار. أواه يا صديقتي.. الأشياء تأتي وتذهب سدى، وفي السديم تروح فلا تعود. قالت خاتمة جدلا لا طائل يرجى من مواصلته: في الحياة تبدأ الأشياء وتنتهي وتحيا من جديد، وللأصوات البعيدة صدى لا يموت، وللحمامة طريقٌ منه تعود، والصوت الآتي مع المطر يمزق الحزن المستديم، ويقتل اليأس ويعيد انتاج الحياة كل يوم. ختم مستشهدًا بخاتمة قصيدة (موت الذئب للشاعر الفرنسي ألفريد ديفيني): وحده الصمت كبير، وكلّ ما عاداه هون على هون...
مشاركة :