يوسف أبو لوز كتاب الروائي الألماني «إلياس كانيتي» الصغير والكبير معاً، في إيجازه وتكثيفه. في فكرته وفي تداعيات تأمله.. هذا الكتاب يعد درساً مهماً للشعراء والكتاب والروائيين الذين فاتهم إدراك قوة الإصغاء ولذته العارمة.يحمل الكتاب عنوان «أصوات مراكش»، ويرصد فيه «كانيتي» صوت الحياة اليومي في مدينة مراكش التي زارها في سنة 1953، وهناك افتتن بالناس والأسواق والأشياء والحيوانات.. افتتن بالضجة اليومية في حركة كل شيء، وفي حركة كل كائن، حركة الجمال وأصواتها. حركة العميان وأصواتهم. ثم الأسواق وروائح التوابل، إضافة إلى أصوات المنازل والأحياء الشعبية، حتى المقابر أصغى لها «كانيتي»، أصغى بأذن عذراء تماماً، تلتقط للمرة الأولى أصواتاً جديدة عليه، تبدو له أصواتاً عذراء أيضاً.إلى جانب الأصوات. راقب «كانيتي» ألوان مراكش وروائحها، وحتى هذه الألوان والروائح كان لها أصوات هي الأخرى.اللون له صوت، والرائحة لها صوت أمام الفتنة التي أغرقت «كانيتي» في مراكش، وكان حصيلة كل ذلك هذا الكتاب الصغير الذي يمكن تصنيفه على أنه مادة مشاهدات «صحفية»، ولكنه في الوقت نفسه يقرأ بوصفه عملاً أدبياً روائياً. يروي فيه «كانيتي» سيرة الأصوات التي أصغى إليها في مدسنة يزورها للمرة الأولى ولا يعرف لغة أهلها.. ولكن لكي يبقي على عذرية الصوت لم يلجأ «كانيتي» إلى تعلم العربية، وذلك لكي يتذوق أصوات الكلمات كما هي في خامتها الأولية المجهولة.يقول: «ماذا في داخل اللعبة؟ ما الذي تخفيه؟ ما الذي تأخذه منك؟ خلال الأسابيع التي أمضيتها في المغرب، لم أحاول تعلم العربية ولا أية لهجة بربرية. لم أكن أريد أن أضيع شيئاً من القوة الغرائبية للأصوات. كنت أرغب في أن تؤثر تلك الأصوات كما هي. دون سعي إلى تقويض جاذبيتها بمعرفة اصطناعية وغير كافية».ماذا يعني ذلك؟يعني مقدرة كاتب صنعته الكتابة وصنعته اللغة. وبما أن اللغة هي مجموعة من الرموز التي تنتج صوتاً، فإن «كانيتي» قد ذهب إلى أبعد من الصوت. ذهب إلى تذوق الصوت وذلك في عملية يغفل عنها الكثيرون وهي: «فن الإصغاء».ولكل جماد ولكل حي ثمة صوت يميزه ويدل عليه. الدنيا مملوءة بالأصوات. حتى الصحراء العارية الصامتة لها صوتها الدفين تحت رملها وفي خلل سرابها. للحجارة أصوات أيضاً. أصوات في جمود الحجر ورسوخه وعزلته في جبل أو تحت جبل. وهناك أصوات للموتى. وأصوات للكواكب والأشجار والثياب.فأية لذة دفينة خفية تلك في الصوت الذي لم نسمعه بعد ولا نعرف عنه شيئاً، فإذا ما طرق ببكورته بكارة آذاننا للمرة الأولى ترانا وقد ذهبنا في افتتان لا يضاهيه افتتان.فهل يتعلم بعض الكتاب فن الإصغاء إلى أنفسهم أولاً، ثم الإصغاء إلى الآخرين، ومن بعد، الإصغاء إلى حركة الحياة ما عرفوه منها وما لا يعرفون. yabolouz@gmail.com
مشاركة :