أكد الدكتور أسامة العبد، رئيس لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب، الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية، أن مؤتمر"الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي"، ذو طبيعة خاصة ويعد مساهمة جادة لعلاج ما يوجد من تضارب واختلافات في الآراء الفقهية لمواجهة تيارات التشدد والتطرف والإرهاب، وتذكير المسلمين أن الاختلاف الأهوج مرض خطير على الأمة الإسلامية.وقال العبد - خلال رئاسته أعمال الجلسة الثانية لمؤتمر الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، المنعقد بالقاهرة، أمس الثلاثاء، بعنوان "الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي" - إن اختيار موضوع المؤتمر مهم جدًا، وجاء في توقيت منضبط في ظل التحديات والمخاطر التي تواجه العالم الإسلامي والافتراءات الكاذبة التي تدعيها الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي تسعى لنشر العنف والدماء في كل مكان.من جانبه، أكد محمد إبراهيم الحفناوي، أستاذ أصول الفقه مقرر اللجنة العلمية الدائمة لترقية أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر، أن نجاح الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي مرهون بالتسامح والتخلص من العصبية المذهبية والنظر إلى التراث الفقهي والأصولي نظرة فيها إنصاف؛ كونه يمثل اجتهادات فقهية وأصولية، وليس هو الشريعة.وقال الحفناوي - في بحثه أمام المؤتمر والذي جاء تحت عنوان "الأطروحات العلمية وأثرها في الفتوى" - إن الجهود التي تبذل الآن من أهل الاختصاص لإظهار الأطروحات الفقهية والأصولية المظهر اللائق بها جهود مشكورة، إلا أنها لكي تصل إلى الثمرة المرجوة يجب التركيز على أهمية أن يكون الباحثون على دراية كاملة بأصول المذاهب، حيث إن لكل مذهب أصولاً وقواعد لابد من مراعاتها عند تعدد الأقوال في المذهب، ومن المعلوم أن كثيراً من الأقوال المذكورة في كتب المذاهب غير مرضية عنها، ولذلك فإن النابهين في كل مذهب يحكمون بضعفها أو شذوذها.ودعا إلى الاهتمام بعلم الحديث لتمييز الصحيح عن الضعيف، وعدم بناء أحكام على أحاديث شاذة أو ضعيفة ضعفاً لا يجبر، وعدم المساس بالأحكام المنصوص عليها بأدلة قطعية الدلالة، والنظر في الأحكام الاجتهادية نظرة مستقلة تتوخى معرفة مدى صلاحيتها للزمان والمكان والأحوال والأشخاص؛ حيث إنه لا ينقص من قدر الفقيه أو الأصولي أن ينادي بتطبيق قول مرجوح عند علماء السلف إن اقتضت المصلحة العمل به حاليا.وأضاف أن معرفة الواقع بمفهومه الواسع معرفة شاملة للجوانب المادية والمعنوية، وقياس القائم منه بمقاييس الشرع الصحيح؛ يجب أن تحظى بقدر وافر حتى لا تزداد عزلة الفقه عن الحياة ويبقى هذا الفقه أسير القضايا المتصلة بالحياة الشخصية، مؤكدا أهمية الفهم العميق للنص الشرعي والإحاطة بأدلة الأحكام ومعرفة مقاصد التشريع مع القدرة على الموازنة والترجيح عند تعارض الأدلة، مشددا على ضرورة الاهتمام بالاجتهاد الجماعي؛ لأن وجوده الآن ضرورة لابد منها، ويجب مراعاة أهل الاختصاص لكي تؤدي اجتماعات العلماء الثمرة المرجوة منها.ومن جانبه، أكد الدكتور عبد الله مبروك النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية - في بحثه الذي قدمه للمؤتمر بعنوان "التجديد المنهجي في مجال الرأي الفقهي" - أن الوقت لم يعد يتسع لما كان يجرى في المنهج البحثي الفقهي لذا يجب أن نبدأ بالتبصير بجميع الآراء، وأن نبدأ بالرأي ثم نبين أدلة هذا الرأي.وقال إن الرأي الذي نقول إنه حرام الآن من الممكن إباحته فيما بعد لدرئه عددا من المفاسد، كما أن الوقوف عند رأي معين خاطئ ولا يتفق مع الواقع ومبادئ الشريعة الإسلامية في التيسير على الناس وكذلك فيما يتعلق بمعرفتهم بأمور دينهم.. وبناء على ذلك إذا تغير المقتضى الذي قيل فيه رأى ما يجب تغيير الحكم وهذا ما فعله عمر بن الخطاب في قضية الطلاق وبعد ذلك غير بعض العلماء أحكام عمر وعادوا إلى أحكام النبي صل الله عليه وسلم ومن ثم فالثبات في الرأي الفقهي لابد أن يتغير وفقا للظروف والوقت الذي يعمل به بما يوافق حياة الناس.وقال الدكتور أحمد ممدوح سعد، مدير إدارة الأبحاث الشرعية أمين الفتوي بدار الإفتاء المصرية، إن موضوع الخلاف الفقهي الذي يقصد به النزاع الذي وقع بين الفقهاء موضوع شديد الأهمية، ولا شك أن الخلاف مشروع وأمر كوني حتى أن الخلاف وقع بين أنبياء الله والملائكة، وللخلاف أسباب منها طبيعة النص واختلاف الإدراكات لطبيعة التنوع البشري مع التنوع المكاني والزماني، مؤكدا أن الخلاف يتنوع بحسب حقيقته إلى خلاف لفظي ومعنوي وخلاف من حيث القبول والرفض وغيرهم.وأضاف - خلال كلمته بالمؤتمر- أن دار الإفتاء لها تجربة تاريخية ثرية حتى صدر من ذلك التراث الآلاف من الفتاوى ومنها ما تم انتقاؤه وناهزت الخمسين مجلدا وليست هي كل تراث دار الإفتاء.ولفت ممدوح، إلى أن البحث الذي قدمه في المؤتمر انتقى منه انتقاء عشوائيا في كل عصر من عصر المفتين أظهر فيه كيفية الخلاف الفقهي وكيفية التعامل معها، واستعرض نماذجا للخلاف بين الفقهاء وكيف كان هذا الخلاف مفاده الرحمة للناس.كما استعرض عددا من الفتاوى التي أوضح فيها أن المفتي اختار الرأي الأسهل والأيسر المتوافق مع رعاية مصلحة الناس، ويمكن أن نستخلص منها مجموعة من القواعد منها التي تبسط الحياة الإنسانية كما أن للمفتي أن يعدل عن تصحيح أفعال الناس إذا رأى أن المصلحة تقتضى عكس ذلك، قائلا" نستدل من ذلك أن دار الإفتاء حافظت على الخلاف الفقهي مع الحفاظ على تحقيق مقاصد الشرع الشريف".وقال الشيخ كامل الحسيني، الباحث الشرعي بالأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، إنَّ من أَوْلى ما يفخر به أبناءُ الأمة الإسلامية تراثها الفقهي والتشريعي العظيم، فإن هذا المنتَج من أخص المنتجَات الحضارية الإسلامية، ومن أكثرها تميُّزًا، ولقد مثَّل الفقهُ الإسلاميُّ نسقًا معرفيًّا فريدًا له محدداته المنهجيَّة الواضحة، صنع من خلاله المجتمع الإسلامي منظومته القانونية والحقوقية بشمولية استغرقت جميعَ معارف وعلوم العصر المتاحة، وبفهم عميق للمُعطَيات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات المسلمة.وأضاف - خلال كلمته بعنوان "استراتيجيَّة "الأمانة العامَّة لدُور وهيئاتِ الإفتاءِ في العالَمِ" لتفعيل استثمارِ الخلافِ الفقهيِّ رؤيةٌ استشرافيَّةٌ"- "كان الخلافُ الفقهيُّ بين العلماء والفقهاء أبرز أسباب ثراء تلك المنظومة واستقرارها على هذا النحو من الشمولية والمرونة، فلولا ذلك العصف الفكري والذهني الناتج عن عملية الخلاف لما كان لهذا الثراء أن يتحقَّقَ؛ فتعدُّد وجوه الاستنباط وتحليل النصوص، وتنقيح عِلل الأحكام وأبعادها المقاصدية كان من شأنه أن يُنتِج هذه المادة الفقهية الغنية ذات الاتجاهات والمناهج المتعدِّدة".ولفت النظر إلى أن صياغة الاستراتيجية تعد من أهم عوامل نجاح أيِّ مؤسَّسة؛ فهي خطة مستقبليَّة على مستوًى عالٍ تضمن تحقيق الأهداف من خلال استخدامها وسائل معيَّنة، وبدون الاستراتيجية لا يمكن لأيِّ منظَّمة أن تتقدَّمَ عبر المدى الطويل، ولا تستطيع أن تنتقل من مرحلة إلى أخرى؛ فالاستراتيجيَّة هي الوسيلة التي من خلالها تستطيع المنظَّمةُ تحقيقَ أهدافها في حدود جدولها الزمني.وشدد الشيخ الحسيني، على أن التحدِّي الأبرز ليس بيان ماهيَّة الخلاف وطبيعته، وتعاطي الفقهاء معه، وإثبات كونه ظاهرة صحية، وسببًا في الثراء الفقهي والتشريعي، وإنما التحدِّي الأهم في الوقت الراهن هو إدارة ذلك الخلاف الفقهي بما يحقِّق الغايات المنشودة من الاستفادة بالتراث الفقهي والتشريعي، واستثمار ذلك الخلاف في دعم التماسُك الاجتماعي المعاصر، والمشاركة في عمليات العمران، والإسهام في الحضارة الإنسانية المعاصرة.وعن رؤية الأمانة في استثمار الخلاف الفقهي قال فضيلته: إن استخدام الخلاف الفقهي كأداة للإسهام الحضاري يجب أن يكون من خلال تصوُّرات ورُؤى استراتيجيَّة تعمل على تطويع ذلك الخلاف وتحديد مجالاته، وسبل تفعيله بما يحقِّق المقاصد الكبرى، ولذلك فإن الأمانة العامَّة لدُور وهيئات الإفتاء في العالَم تبنَّت العملَ على رسم استراتيجية متعدِّدة المحاور تطمح لتفعيل استثمار الخلاف الفقهي.وأضاف الشيخ الحسيني، قد تمثَّلَت هذه الاستراتيجية إجمالًا لدى الأمانة بوضع رسالةٍ مميزة وأهدافٍ محدَّدة لاستثمار الخلاف الفقهيِّ، وتنفيذِ مبادرات ومشروعات بعضها مُباشِر لدعم تفعيل هذا الاستثمار، وبعضها الآخَر يتضمَّن هذا الدعم في نتائجه ومُخرجاته.وأشار إلى أن الأمانة العامَّة لم تقف على مجرد وضع الرؤية والرسالة، وتحديد أهداف استثمار الخلاف الفقهي لتحقيق رسالتها السامية، وإنما دعَّمَت ذلك بوضع آليَّات محدَّدة لتفعيل هذا الاستثمار، وأقامت المبادرات والمشروعات التي تتبنَّى هذا الاستثمار في ثناياها، كما تبنَّت الأمانةُ رؤيةً مستقبليةً لتفعيل هذا الاستثمار.واختتم الشيخ كامل الحسيني كلمته بقوله: "ومن هنا تسلَّمَت الأمانةُ العامَّةُ لواءَ تفعيل استثمار الخلاف الفقهي في تحقيق الاستقرار المجتمعيِّ والمشاركة الحضارية فوضعَتْ خُطَّتَها الاستراتيجية لتفعيل هذا الاستثمار ممثَّلَة في رسالة واضحة وأهدافٍ محدَّدة ودعمته بآليَّات عدَّة، ولم تتوقَّف عند ذلك؛ بل وضعت رؤية استشرافية لهذه الآليَّات مدعومة بمبادرات ومشروعات تطمح إلى الارتقاء بتفعيل استثمار الخلاف الفقهي".
مشاركة :