تعودنا عندما يفشل عمل فنى يؤكد صانعه أو نجمه أنه حريص على ألا يتنازل عن مبادئه، ولهذا لم يحقق الفيلم أو المسلسل أو الأغنية النجاح المتوقع لأنه لا يقدم فنًا مبتذلًا.إنه المأزق الأصعب الذى يواجه الفنان عندما تخذله الأرقام ويقدم شريطًا فنيًا غير قابل للتداول.. مثل هذه الأعمال تموت عادة لحظة ميلادها متأثرة بالسكتة الجماهيرية، ويبقى الرهان على أن ينصفها الجيل القادم محل شك، فليست كل الأفلام مثل (باب الحديد) تكتسب جماهيرية مع الزمن، (باب الحديد) الذى رشقت فيه الجماهير بالحجارة دار العرض احتجاجًا، هو الاستثناء وليس له عادة فروع أخرى!!.هل على الفنان أن يضع (تحابيش) أو غطاء من السكر حتى يُرضى الجمهور؟.. لا نطلب من المبدع أن يقدم نغمة تجارية، ولكن نغمة جماهيرية، والفارق شاسع.فى الماضى كانوا يبيعون الأفلام للموزع الخارجى قبل بداية تصويرها مقابل سلفة، والمقصود به من يتولى بيع الفيلم خارج مصر، وكان يُشكل القسط الأكبر من الميزانية، الخطة المتبعة فى التسويق تنحصر فى أن يضمن المنتج تقديم مثلا خمس خناقات لفريد شوقى، أو خمس رقصات لتحية كاريوكا، أو خمس أغان لفريد الأطرش، وهكذا يرصد الموزع أمواله وهو مطمئن إلى أنه سيعوضها وأكثر.إحالة الفن إلى معادلة حسابية طبعا مرفوضة، كان هذا هو النظام المتبع فى الماضى، ولكن معرفة ذوق الجمهور مطلوب دائما فى حوارات سابقة.. قال لى المخرجون الكبار الثلاثة، صلاح أبوسيف وحسن الإمام وكمال الشيخ، إنهم يحرصون على الذهاب يوميا إلى دور العرض ليشاهدوا كيف تقبل الجمهور الفيلم، أو حتى كيف عبر عن انزعاجه، سواء أفلامهم أو غيرها. روى لى أبوسيف أنه كان يشاهد فى الستينيات فيلمه (بين السماء والأرض)، كانت تجرى أغلب أحداثه داخل مصعد، ومع (تتر) النهاية، لمح متفرجا يأتى إليه مسرعا، وأمسك (الجرافت) حول عنقه قائلا: (حرام عليك خنقتنا)، اعتبر أبوسيف أن هذه أكبر شهادة إيجابية تلقاها من الجمهور، رغم أنه كاد يفقد بسببها حياته.قال نجيب محفوظ إنه لو اكتشف أن التعاطى مع الرواية سيصبح مثل التعامل مع الصحف، حيث تعودوا فى الريف المصرى مع زيادة معدلات الأمية أن هناك من يقرأ الصحيفة للجمهور، واللغة التى تُصاغ بها عادة المادة الصحفية أقرب إلى ما نطلق عليه (اللغة الثالثة)، التى تقف بين الفصحى والعامية، أكد أديبنا العربى الكبير أنه لو كانت تلك هى الطريقة التى يتعاملون بها فى تلقى الرواية لغيّر على الفور من أسلوبه ومفرداته ليصبح على موجة الناس.ليس مطلوبًا من الفنان أن يقدم قطعًا مفردات تجارية، أو يبحث عن المشاهد الساخنة ليرضى فئة ما من الجماهير، ولكن عليه بنفس القدر ألا يصنع فنه من أجل المقاعد الخاوية. المخرج حسين كمال قال إنه بعد فيلمه الأول (المستحيل) عندما ذهب لدار العرض لم يعثر على الجمهور، ولكن شاهد عددا من القطط الضالة احتلت الكراسى، وأخذ يبكى حسرة على طاقته المهدرة، قرر بعدها أن يصنع سينما للناس، وأصبح فيلمه (أبى فوق الشجرة)، الذى لعب بطولته عبدالحليم حافظ، واحدًا من أعلى إيرادات السينما المصرية طوال تاريخها، وهو من الأفلام التى خاصمتها القطط!!.
مشاركة :