دارت فعاليات أيام قرطاج الموسيقية لهذا العام في أشهر الأماكن التي يمكن أن تستقطب جمهورا تونسيا وأجنبيا شغوفا بالفن والاكتشاف، محبا للتميز والغرابة، فقدّمت للجمهور عروضا في شارع الحبيب بورقيبة، الشارع الرئيسي للعاصمة تونس، وعروضا أخرى في مدينة الثقافة، كما احتضن فضاء النجمة الزهراء بسيدي بوسعيد جل عروض مسابقة المالوف، تلك الموسيقى الكلاسيكية المنتشرة في بلدان المغرب العربي. ولم تغفل إدارة المهرجان عن استغلال وجهات أخرى للترويج لعروضها، إذ اختارت كاتدرائية تونس العاصمة، وهي الكنيسة الرئيسية للرومان الكاثوليك بتونس لتحتضن عرضا موسيقيا بعنوان “ثنائي من ضفتين”، فكان عرضا شبيها بحلم صعب المنال لا يمكن تحقيقه إلاّ في البلدان التي تؤمن شعوبها بأن الدين لا ينفي الحياة ولا يعادي الآخر المختلف عنه. على امتداد ثمانية أيام بلياليها (من 11 إلى 18 أكتوبر الجاري) عاش عشاق الموسيقى في تونس رحلة ممتعة مع موسيقى العالم عبر ثلاثة وثلاثين عرضا موسيقيا، من بينها ثمانية عروض عالمية وثلاثة عروض عربية واثنان وعشرون عرضا تونسيا. وقد حاولت الدورة الأخيرة العمل من أجل التطوير ومزيد الاهتمام بالاقتصاد الموسيقي ومساعدة الفنانين الشبان للمضي قدما في تجاربهم الموسيقية، مؤمنة بثراء محاولات الانفتاح المستمر على التجارب الموسيقية لدول الجنوب كتونس والمغرب وفلسطين وبوركينا فاسو والكاميرون، وهي مشاريع موسيقية قوامها التجديد والثورة على السائد دون المساس من الموروث الموسيقي للشعوب. وضمن هذا الإطار تابع جمهور المهرجان عرضا من باكستان في فن القوالي احتفاء بتونس عاصمة للثقافة الإسلامية، وعرضا آخر لفرقة قناوة ديفسيون التي يديرها الفنان أمازيغ كاتب. ولم تكتف الدورة السادسة للمهرجان بهذا الكم من العروض الموسيقية، بل أتاحت الأيام لطلبة الموسيقى متابعة لقاءات مهنية و”ماستر كلاس” أدارها خبراء من تونس وخارجها، شاركهم فيها الفنانون بتجاربهم البحثية ورحلاتهم الموسيقية الكثيرة المتشبّعة بثقافات العالم وفنونها. كما لم ينس المشرفون على النسخة السادسة من أيام قرطاج الموسيقية تكريم عدد من المبدعين التونسيين والعرب الذين غيّبهم الموت خلال عامي 2018 و2019، ممن أثروا الموسيقى العربية كلمة ولحنا وصورة أيضا، فكرّمت من تونس المخرج شوقي الماجري والفنانة منيرة حمدي والفنان الشعبي لطفي جرمانة والفنان حسن الدهماني، كما كرمت من الجزائر الفنان رشيد طه ومن فلسطين الفنانة ريم البنا، كما اختارت إدارة الأيام تكريم جمعية مهرجان تستور الدولي للمالوف والموسيقى العربية والتقليدية، وهي جمعية تونسية تعمل جاهدة للحفاظ على التراث الموسيقي التونسي والعربي ذي الصبغة الطربية. يعتبر الموسيقار السويسري إرنست ليفي “أن الإنسانية تبدأ بالتحسّن عندما نأخذ الفن على محمل الجد، كما الفيزياء أو الكيمياء أو المال”، ومن هناك عملت تونس عن وعي وربما عن غير وعي على مراكمة تجربتها الموسيقية ومشاركتها مع الجمهور العريض، وهو ما حصل تحديدا في أيام قرطاج الموسيقية الأخيرة، فمن تابع الدورات الخمس السابقة، لاحظ أن جمهور الدورة السادسة بدا مختلفا ومتجددا، مع الحفاظ على نسبة كبيرة من أولئك الأوفياء الذين يعشقون الموسيقى كيفما كانت ويستمتعون بنسائمها سواء هبّت من الشمال أو الجنوب، من الشرق أو الغرب. ومن هناك، كان جمهور الدورة السادسة من الأيام ملتزما ورصينا أحيانا، راقصا وصاخبا في أحيان أخرى، متفاعلا مع كل إيقاع سريع ومتمرّد، حسبه في ذلك ما سمعه من موسيقى تنوّعت بين الكلاسيكية والروك والجاز والموسيقى العربية والفلكلورية التونسية وموسيقى القناوى والموسيقى الباكستانية وغيرها، ممّا جعل ذبذبات الموسيقى مثيرة للحواس وكأنها تعلن بداية كل يوم عن بدء الحياة بروح جديدة. ويسعى المدير الفني للمهرجان عماد العليبي “إلى استقطاب جمهور متنوع ولكسب وفاء عشاق الأنماط الموسيقية المختلفة وخلق سوق موسيقية يتبادل فيها المشاركون الخبرات ويقيمون الشراكات الفنية، علهم يدعمون الحلم وتصبح أيام قرطاج الموسيقية ذات يوم أحد أكبر مهرجانات الموسيقى في العالم”. ولم تقف المختارات الموسيقية لدورة هذا العام عند البرنامج اليومي فقط، بل انعكس التوجه العام على حفلي الافتتاح والاختتام، حيث رُفع الستار وأُنزل بعرضين من الموسيقى المجدّدة لاسمين من أشهر الموسيقيين التونسيين في العالم، وهما الموسيقار أمين بوحافة الذي شارك الأوركسترا السمفوني التونسي حفل الافتتاح، في حين اختتمت الأيام بحفل ثنائي للأخوين بشير ومحمد الغربي.
مشاركة :