فوائد وأضرار غير متوقعة لـ السجال اللفظي مع الآخرين

  • 10/21/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

مصدر الصورةAlamyImage caption لم يكن القادة الذين عاشوا قبل آلاف السنين مثل الملك فيليب الثاني المقدوني يتورعون عن التفاخر والتباهي بقوتهم بدا المشهد غريبا بعض الشيء؛ ففيه ظهرت ثلاث دجاجات تتراقص في صف واحد، تحملها ست أيادٍ مكسوة بقفازات بيضاء اللون في الهواء، لتتمايل هذه الطيور ذات اليمين وذات الشِمال على إيقاع أغنية "رأسا على عقب" لديانا روس. اللافت أن رؤوس الدجاجات ظلت مستقرة تماما رغم اهتزاز أجسادها، وكأنها مُثبتة بواسطة قوة ما خفية. لم يكن ما سبق حلما راودني وإنما جزءا من حملة إعلانية، انتشرت قبل سنوات كالنار في الهشيم، وأطلقتها شركة "مرسيدس بنز" لتصنيع السيارات الفارهة، بهدف الترويج لمنظومة "القيادة الذكية" التي دُشِنَت عام 2013. وسعت الشركة من وراء ذلك لأن تؤكد لزبائنها المحتملين، أن سياراتها تحظى بـ "هذه القدرة السحرية على السيطرة على بدنها" مستقرا، تماما كما ظلت رؤوس الدجاجات ثابتة ومستقرة في كل الأوقات، خلال الإعلان الترويجي. لكن شركة "جاغوار" - التي تشكل أحد المنافسين اللدودين لـ "مرسيدس" - اعتبرت الإعلان استفزازا لها. وبعد بضعة أشهر، أطلقت ردها عليه في صورة إعلان آخر، تظهر فيه كذلك دجاجة راقصة؛ يحرك جسمها رجل يرتدي قفازات بيضاء أيضا، مع إبقاء رأسها ثابتا. وخلال الإعلان وبينما يقول هذا الشخص: "أنظروا، إنها تماما مثل مرسيدس"، يختفي الطائر المسكين من على الشاشة فجأة ويتطاير ريشه، مع ظهور نمر مرقط - يُعرف بالإنجليزية باسم جاغوار وهو اسم الشركة - وقد التهم الدجاجة على ما يبدو. ويُكتب على الشاشة سؤال يقول: "هل تفضلون القدرة السحرية على السيطرة على الجسد؟ من جانبنا، نفضل ردود الفعل الشبيهة بتلك التي تصدر عن عائلة القطط، التي ينتمي لها النمر المرقط. ما سبق ليس إلا نموذجا يدل على مباهاة المؤسسة بالمزايا التي تتحلى بها وتقليلها في الوقت نفسه من شأن منافسيها. ورغم أن هذا الأسلوب يرتبط عادة بمجال الرياضة؛ فإن هناك الكثير من الأمثلة المثيرة له، في مجالات أخرى تبدأ من التسويق وتصل إلى السياسة مرورا بالقانون. وحتى الملوك القدامى ساروا على هذا الدرب. ومن بين النماذج الشهيرة لذلك، الملك فيليب الثاني المقدوني الذي أرسل لأعدائه رسالة، تفاخر فيها بأنه سيدمرهم عن بكرة أبيهم على نحو يمنعهم من رفع رؤوسهم ثانية من جديد، إذا غزا أراضيهم، وبأنه - وهذا هو المهم - عازم على ركلهم على مؤخراتهم. فأتاه الرد من قادة الأعداء في صورة كلمة واحدة وهي "إذا". وبرغم أنه قد يصعب عليك تخيل أن زملاء لك يتهكمون عليك بشكل لاذع، ويقولون - مثلا - إن أصيص النباتات الخاص بهم قد يؤدي بعض المهام على نحو أفضل منك، فإن هذا النوع من ثرثرة المكاتب، ربما يكون في واقع الأمر أمرا عاديا ولو بشكل نسبي. فثمة أدلة ظهرت حديثا، تشير إلى أن هذا الضرب من السجالات الكلامية يزحف إلى أماكن العمل، وأنه منتشر بقدر أكبر بكثير مما يمكن أن تتوقع. ففي العام الماضي، قرر جيريمي ييب، خبير الإدارة في جامعة جورج تاون الأمريكية، - برفقة باحثين من جامعة بنسلفانيا - إجراء دراسة لتحديد مدى انتشار هذا النوع من التراشق الكلامي بين العاملين في الشركات المُدرجة على ما يُعرف بقائمة "فورتشن 500"، التي تعدها مجلة "فورتشن" لأعلى 500 شركة مساهمة في الولايات المتحدة. وفي إطار الدراسة، سأل الباحثون 143 شخصا عن تجاربهم في هذا الشأن؛ ليتبين أن بوسع 61 في المئة من هؤلاء تذكر حدوث نماذج لمثل هذه المواقف خلال الشهور الثلاثة السابقة على إجراء البحث. وبدت النتائج صادمة في نظر ييب، مما أثار تساؤلا حول كيف يمكن أن يؤثر استخدام طريقة حديث مثل هذه على من يتعرضون لها، وما إذا كان يتوجب علينا جميعا شحذ مهاراتنا للسخرية من الآخرين والتقليل من شأنهم أم لا؟ كيف تستفيد دول مثل اليابان من كبار السن فيها؟مصدر الصورةGetty ImagesImage caption أطلق الملاكم الأسطوري محمد علي بعضا من أكثر عبارات التهكم والسخرية شهرة على مر العصور ضد خصومه حافز غير محتمل دعونا أولا نحدد تعريف هذا الأسلوب في الحديث، الذي يُطلق عليه بالإنجليزية اسم `Trash Talk`. التعريف الذي قدمه الباحثون في هذا الصدد، يقول إنه يتمثل في "تلفظ المرء بتعليقات متفاخرة حول نفسه أو تفوهه بمفردات مهينة بشأن خصمه أو منافسه". وقد شهد عام 1999 المثال المفضل الذي يحلو لـ "ييب" الاستعانة به للإشارة إلى النصف الثاني من هذا التعريف، وهي واقعة جرت في غمار استعدادات لندن للاحتفال باستقبال الألفية الجديدة. فقد تضمنت هذه التحضيرات إقامة عجلة دوارة عملاقة، تُعرف الآن بـ "عين لندن"، وتشكل أحد المعالم الشهيرة في الوقت الحاضر للمدينة. وقد كان المشروع يتم برعاية شركة الخطوط الجوية البريطانية، لكن تبين في مراحله النهائية أنه لن يكون جاهزا في الموعد، ما أثلج صدر الملياردير ريتشارد برانسون، مؤسس شركة "فيرجين أتلانتيك" المنافسة، ما حدا به لترتيب عملية تحليق لمنطاد فوق "عين لندن" - غير المكتملة في ذلك الوقت - وعليه لافتة كُتِبَ عليها بسخرية "الخطوط الجوية البريطانية لم تستطع رفع العجلة عاليا". وللتعرف على ما إذا كان لجوء المرء إلى مثل هذا الأسلوب مفيدا له أم لا؛ اختار ييب ورفاقه 178 طالبا وقسموهم لمجموعتين، طُلِبَ منهما ممارسة لعبة على الإنترنت ضد بعضهم بعضا. وزُوِدَت إحدى المجموعتين مسبقا ببعض العبارات ذات الطابع المحايد لكي يستخدمها أفرادها في السجال مع أفراد المجموعة الأخرى، الذين تم تزويدهم بعبارات لاذعة ساخرة مُتهكمة من قبيل "أيها الدُمى" و"ستخسرون" و"قصتكم انتهت". المفاجئ أن من تعرضوا لهذا الوابل من العبارات الحافلة بالسخرية والإهانة، أبلوا بشكل أفضل ممن وجهوها إليهم. وعلّق ييب على ذلك بالقول: "هذا أمر مثير للاهتمام، فقد اكتشفنا أن تعرض المرء لهذا الأسلوب يحفزه بشكل أكبر للتفوق على خصمه، وذلك رغم أننا نميل لاعتبار اللجوء لهذا الضرب من الحديث وسيلة لتخويف المُخاطَب" وجعله يؤدي بشكل أقل من المعتاد. ويشير الرجل في دراسته إلى أن مكان العمل يشكل بقعة تحتدم فيها المنافسة. وتشكل مباهاة المرء بمميزاته وتقليله من شأن زملائه أو منافسيه فيها إحدى الوسائل التي يلجأ لها للتفوق على هذا الصعيد، لكنها وسيلة محفوفة بالمخاطر في الوقت نفسه. فذلك يؤدي - حسبما يقول ييب - إلى "إحداث حالة من الصراع، وبشكل فوري"، وهي حالة مختلفة تماما عن المنافسة المعتادة، التي ربما تكون موجودة من الأصل بينك وبين زملائك. ففي حالة الصراع، سيصبح هؤلاء الزملاء عاقدي العزم على رؤيتك وأنت تخسر. ومن بين التَبِعات السلبية الأخرى للجوء إلى هذا الأسلوب، أنه يقود من يتعرضون له لاتباع أساليب أكثر قذارة. فقد أظهرت دراسة لاحقة أجراها ييب وزملاؤه، أن من كانوا ضحية للسخرية والعبارات اللاذعة في الدراسة الأولى، أصبحوا أكثر ميلا فيما بعد، لانتهاز أي فرصة سانحة للغش، وذلك بشكل أكبر من منافسيهم. مصدر الصورةAlamyImage caption تبادل الأمير هاري بعض العبارات الودودة التي تنطوي في الوقت نفسه على التقليل من قيمة خصمه خلال حديثه مع أحد الجنود أثناء مباراة للكرة الطائرة أُقيمت لدعم جنود جرحوا جراء المعارك فن الإلهاء لكن قبل أن تنبذ هذا الأسلوب في السجال الكلامي تماما، ينبغي عليك العلم أنه ينطوي كذلك على بعض الجوانب الإيجابية المثيرة للاهتمام. فمبدئيا، يؤدي استعانتك وخصمك به إلى استفادتكما معا من الدافع والحافز الإضافي الذي يترتب على ذلك. وإذا لم يتحقق هذا الأمر، فإن من بين الإيجابيات الأخرى، التي تنجم عن استخدامك ذاك الأسلوب، أنه قد يشتت انتباه خصمك بشكل كبير للغاية. وتبين ذلك من خلال ما كشفت عنه دراسة ييب، من أن أداء من يسمعون العبارات اللاذعة المُتهكمة يتراجع، حينما يكونون بصدد إنجاز مهام تتطلب منهم التحلي بالقدرة على الإبداع والابتكار. وأشار الباحث إلى أن هذا قد يعود إلى أن القدرة على الابتكار تستلزم من المرء، أداء الكثير من الوظائف المعرفية؛ من بينها تمحيص أكثر من فكرة بشكل متزامن وبلورتها جميعا بطريقة جديدة. ولذا يؤدي تعرض المرء في هذه الحالة للسخرية والتهكم، إلى أن يصبح من الصعب عليه تركيز أفكاره على نحو سليم. الغريب أن هذه هي النتيجة الوحيدة التي يبدو أن الناس قد تمكنوا من التكهن بأنها ستنجم عن اللجوء إلى أسلوب مثل هذا. فعندما سُئِلوا عن تصوراتهم بشأن التأثيرات المحتملة للسخرية من الخصوم والتهكم عليهم، كانت هناك فجوة هائلة بين توقعاتهم والواقع، لكنهم نجحوا على الرغم من ذلك من التنبؤ على نحو دقيق، بأن مثل هذه الطريقة في الحديث ستشتت الانتباه، دون أن يتبادر إلى أذهانهم، أنها قد تقود في الوقت نفسه إلى تحفيز إضافي لمن يتعرض لها. وقد أكدت دراسة أخرى، قادتها الباحثة كارِن ماكدورمات من جامعة كونيتيكت، أن التباهي بالقدرات الذاتية والتقليل من شأن الآخرين بشكل لاذع، يمكن أن يكون مثيرا للانزعاج، خاصة إذا ما تضمن إمطار الناس بوابل من الإهانات، وهم منهمكون في شيء ما، حتى وإن كان ذا طابع غير جاد، مثل التباري في ألعاب الفيديو. فكما يمكن أن تتوقع؛ يفضي ذلك إلى أن يشعر من يتعرضون له بالغضب، وهو ما يشتت انتباههم ويجعلهم يؤدون بشكل أسوأ خلال اللعب.مصدر الصورةAlamyImage caption أظهرت إحدى الدراسات أن إمطار الآخرين بوابل من السخرية خلال انخراطهم في منافسات مع أصدقاء مثل التباري في ألعاب الفيديو مثلا يمكن أن يكون أيضا مثيرا للانزعاج أرفع من شأن نفسك ولا تحط من قدر الآخرين إذاً هل يؤتي هذا الأسلوب - الذي يمكن القول إنه لا أخلاقي إلى أقصى حد - ثماره بالنسبة لمن يستخدمه ضد زملائه في العمل؟ وإذا كان الرد بالإيجاب؛ فكيف يمكن توظيفه بطريقة تجعله فعالا إلى أبعد درجة؟ في البداية يتوجب علينا الإشارة إلى حقيقة مفاجئة مفادها؛ بأن استخدام طريقة من هذا القبيل في الحديث، يشكل ظاهرة لم تخضع للدراسة بصورة كافية، بالنظر إلى انتشارها في كل مكان. كما أنه لا يوجد حتى الآن من درس تأثيراتها على العاملين في أماكن العمل. رغم ذلك تشعر ماكدورمات بالثقة في أن الدراسة التي أجرتها في هذا الموضوع، تقدم بعض المؤشرات المفيدة في هذا الشأن. وتقول: "أعتقد أن تأثيرات ذلك الأسلوب ستبقى قائمة - بدرجة ما - في مكان العمل". وبينما أشارت إلى أنها تعتقد أن عنصر تشتيت الانتباه الناجم عن التعرض لهذا الأسلوب سيكون أقل في هذه الحالة لأنك ستستمع إلى تلك العبارات الساخرة والمهينة ثم تعود للجلوس على مكتبك وتفكر فيها، فإنها توقعت في الوقت ذاته أن تبقى الآثار النفسية لذلك في نفسك، ما قد يؤثر عليك وعلى مدى حماستك ودافعيتك سلبا أو إيجابا. مع ذلك، تلفت الباحثة الانتباه إلى أنها اضطرت لأن تتوخى الحرص الشديد وهي تختار النماذج التي استخدمتها في دراستها من تلك العبارات المتباهية الساخرة والمُتهكمة، نظرا لأن الكثير منها تتضمن - في واقع الأمر - تعبيرا عن كراهية المرأة ورهاب المثلية، قائلة: "لم أرغب في أن أسيء للناس، لمجرد الحصول على رد فعل منهم" تستفيد به في الدراسة. وللحيلولة دون أن ينزلق المرء من مرتبة التهكم على الآخرين والتقليل من شأنهم إلى درك الاستئساد عليهم، ربما يجدر به أن يركز على الإعلاء من شأن نفسه وقدراته بدلا من التحقير من قيمة الآخرين. وتؤكد ماكدورمات كذلك على أهمية أن يضفي المرء طابعا مرحا على الأمر برمته، وأن يقيم صلة مع من يود التراشق معه بالكلمات، قبل بدء أي نزال من هذا القبيل. فإلقاء الإهانات بشكل عشوائي، لن يُمَكِنُك من اكتساب أي أصدقاء، بل ربما يقود لطردك من عملك أيضا. أما الباحث ييب فيقترح أن يحجم كل منّا عن اللجوء إلى هذا الأسلوب وهو بين زملائه في العمل، وأن يلجأ إليه لإذكاء روح التنافس بين شركته والشركات الأخرى. ويقول في هذا الصدد إن تباهيك بقدراتك وتقليلك من شأن الآخرين، سيؤدي إلى عواقب سلبية أكبر، إذا مورس بين زملاء العمل الواحد، ممن يُفترض أن تسود بينهم روح التعاون والترابط والاعتماد على بعضهم بعضا في إنجاز المشروعات. ويعزز هذا الرأي، ما كشفت عنه دراسة أجراها ييب، وأشارت إلى أنه بالرغم من أن الانخراط في تراشق كلامي ينطوي على سخرية من الآخرين يمكن أن يزيد دافعيتهم وحماستهم في المواقف التنافسية، فإن هذا الأمر يقود كذلك إلى ثني المرء عن بذل جهود أكبر لإنجاز مشروع ما في إطار مجموعة عمل، إذا كان زملاؤه لا يتعاملون معه بالتهذيب الكافي. وإذا اعتمدنا على الروايات المتداولة - على الأقل - سنجد أن معظم الناس يعرفون على ما يبدو هذه القاعدة بالسليقة، لأن من الشائع للغاية، أن تجد تبادلا للسخرية اللاذعة بين "مجموعات" مختلفة، مثل الشركات المتنافسة أو فرق كرة القدم التي تتبارى مع بعضها بعضا، بقدر أكبر مما تراه بين الأفراد وبعضهم البعض. ويقول ييب في هذا السياق: "إذا افترضت أنك تعمل في غوغل وترغب في تحفيز موظفيك، فبإمكانك استخدام هذا الأسلوب، من خلال مباهاتك بقدراتهم وسخريتك من أمازون أو آبل، إذ أن ذلك قد يفضي إلى حدوث بعض التأثيرات المفيدة". على أي حال، هذه هي الطريقة التي يُؤتي بها هذا الأسلوب أُكله. إذ يمكن أن يمنحك اليد العليا في مواقف بعينها إذا استخدمته بحرص وعناية. لكن عليك أن تعرف في الوقت ذاته القواعد الواجب احترامها في هذا الشأن، لئلا ينتهي بك المطاف أمام القضاء، بدلا من أن تترقى في عملك كما تأمل. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Worklife

مشاركة :