أثارت دورية «فيصل» السعودية في عددها الأخير، سبتمبر أكتوبر 2019، شجون الترجمة وأحوالها في الثقافة العربية، ولكنها لم تتطرق لحالها إحصائيًا بل من زاوية عرض تجارب المترجمين، فما من مرة يدور فيها الحديث عن حال الترجمة في الثقافة العربية المعاصرة «إحصائيًا» إلا ونجد أنفسنا في نهاية الركب، متخلفين حتى عن آخر عربة في القطار الأوروبي مثلاُ... بمسافات وأميال محبطة! حاولت المجلة، تحت عنوان يلخص الحال، أن تقدم الملف باسم «الترجمة في الوطن العربي، جهود تفتقد الرؤية»، وأن تلم النواقص والمثالب، من خلال إفساح المجال لبعض المترجمين من مختلف البلدان العربية، ومنها مصر والمغرب وسوريا ولبنان والعراق، لمخاطبة القراء وعرض تجاربهم، ومعاناتهم مثلا مع اختيار المصطلحات، والكثير منها مختلف في المشرق عن المغرب، وعائم في كل البلدان، ومع النشر والأجور، ومع البيع والشهرة وغير ذلك. في العالم العربي ترجمات كثيرة للكتب الأجنبية اليوم، ومؤسسات عديدة، ولكن الثغرات لا تزال واسعة. لدينا عربيًا، يقول المترجم اللبناني «مصطفى حجازي»، العديد من المؤسسات، مثل «مكتب التعريب» التابع لجامعة الدول العربية، ومجمع القاهرة ودمشق، وأقسام علم النفس في القاهرة وبيروت، وكلها تصدر المعاجم والقواميس في مجال علم النفس الذي يترجم فيه الأستاذ مصطفى حجازي، غير أن الإشكالية الأبرز والأكثر انتشارًا في مجال علم النفس الاستسهال الذي يصل إلى حد السطحية أحيانًا في وضع المصطلح العربي في مقابل المصطلح الأجنبي، فتوضع كلمة عربية من وحي الخاطر، وهو ما يؤدي إلى تقديم إنتاج علمي لطلابنا يتصف بانعدام الدقة بالنظرية العلمية قيد التداول. ويقول «حجازي» إنه «لا يكفي لدقة الترجمة ووضوحها أن يكون المترجم متمكنًا من اللغتين العربية والأجنبية، بل لا بد من استيعاب النظرية العلمية للعمل الذي يقوم بترجمته»، والأخطر من ذلك، يلاحظ حجازي أنه «يؤخذ على بعض النصوص العربية المترجمة حرية تصرف واسعة تجعل المترجم يترجم بتسرع»، وهكذا يضع المترجم «نصًا عربيًا تقريبيًا». هناك مؤسسات تُعنى بالترجمة مثل «مشروع الألف كتاب»، و«إدارة الثقافة والتراث» في البحرين، و«المنظمة العربية للترجمة في بيروت» وغيرها، ولكنها لا تركز على ترجمة الكتب العلمية، ذلك أن هذا المجال يحتاج الى مؤسسات متخصصة ودقيقة في نقل العلوم. ويركز المترجم والأكاديمي المصري «محمد عناني» حديثه على اللغة العربية وخصوصيتها للأعمال الأدبية العربية «إن المستشرقين الجدد، أي من يتخرجون في أقسام اللغة العربية التي أنشئت في الخمسين عامًا الأخيرة في الكثير من الجامعات الأمريكية والأوروبية، لا يقضون في دراسة العربية إلا سنوات مرحلة الليسانس، فهل تكفي سنوات ثلاث أو أربع لتعلم اللغة العربية؟ إننا نحن أبناء العربية نقضي حياتنا في القراءة باللغة العربية وحفظ شعرها ونثرها، والكتابة بها والاطمئنان إليها، ثم لا نكاد نزعم أننا ملكنا ناصيتها، فما بالك بمن تعلمها في المرحلة الجامعية مثلما يتعلم اللغة الفرنسية أو أي لغة أوروبية؟»، ويقول: «ولكننا أبناء العربية نتكلم لغة ونكتب أخرى، ونفهم لغة ثالثة تراثية من دون الإسراف في الرجوع إليها. والأجنبي الذي يتعلم العربية يندر أن يحيط بالفواصل بين هذه المستويات». وكلام الأستاذ الموقر «عناني» لا تنقصه الدقة، خاصة إشارته إلى تنوع مستويات اللغة العربية وتداخلها وشعابها، ولكن لماذا انتظرنا كل ذلك الوقت كي يصنف المستشرقون أعمالهم في الأدب العربي وتاريخه ومراحله، كما فعل المستشرق كارل بروكلمان مثلاً؟ ثم أين نحن من البحوث الدقيقة والترجمات والمصنفات التي تصدر عن العالم العربي وعن الإسلام من مختلف مراكز البحث الأمريكية والفرنسية والألمانية والهولندية، رغم «جهل المستشرقين الغربيين» بدقائق اللغة العربية، بينما لا نجد شيئًا من هذه البحوث القيمة في جامعاتنا و«مراكز البحوث العربية» وحياتنا الثقافية التي تعاني التعصب القومي والديني والهيمنة الرسمية والاستبداد الإداري والسياسي، وأحيانًا الاستعلاء على الثقافات الأخرى؟ فما فائدة غزارة ثقافة الباحث العربية اللغوية إن كان لا يزال محبوسًا داخل أسوار تراثه؟ كم من القواميس العربية التاريخية مثلاً قمنا بتصنيفها لخدمة «خصوصية اللغة العربية» وتاريخ كلماتها ومصطلحاتها؟ تحدث المترجم والناقد العراقي المعروف د. عبدالواحد لؤلؤة مشاركًا في ملف مجلة «الفيصل» بعنوان «الترجمة والمثاقفة». وأشار إلى جملة من أخطاء المترجمين الأجانب وسوء فهمهم لبعض الكلمات العربية، وتسرعهم في تبني بعض المصطلحات. وقد بشر المترجم المصري الأستاذ «إبراهيم عبدالمجيد» القراء بتزايد نجاح الترجمة من العربية إلى اللغات الغربية، وقال: «إن الأدب العربي يجد مكانًا له يتسع كل يوم في العالم، والملاحظ أن الأسماء الجيدة تأخذ مكانها ولم يعد الأمر متوقفًا على المشاهير فقط، بل صارت شهرة كثير من الكتاب تأتي من الترجمة الآن». وأضاف عبدالمجيد «هذا كله جيد وسيفتح المجال ليكون الأدب العربي أكبر من كونه رافدًا للأدب العالمي، بل ليكون جانبًا طبييعًا منه. لن يطول الوقت ليحدث هذا بل كل الأمور تتجه إليه بسرعة هائلة». التفاؤل خير من التشاؤم! أسهمت الأديبة العراقية المعروفة «لطيفة الدليمي» في ملف الترجمة، وقالت إنها تترجم النصوص عن حب، «فأنا أترجم الأعمال التي أشبعتني شغفًا مَلَك عليّ حواسي، وليست الترجمة سوى وسيلتي لنقل بعض ذلك الشغف الى نظرائي القراء». المترجم، تقول الأديبة، ليس إمكانية لغوية محضة، «والمهارات اللغوية لا تكفي من دون ثقافة عامة وحسٍّ خاص وموهبة تساعد في التقاط الجواهر المكنونة»، وأشادت الأديبة والمترجمة العراقية كذلك بكتاب «عالم المعرفة» الذي يشرف عليه «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت»، حيث صدر العدد الأول منذ يناير 1978، وسيبلغ عدد الكتب الصادرة ضمن السلسلة مع نهاية العام الحالي 479 كتابًا، وتقول الأستاذة دليمي: «أرى من جانبي أن مشروع كتاب (عالم المعرفة) هو المشروع الأكثر نجاحًا بين التجارب المؤسساتية للترجمة في العالم العربي». وتقول عن بداية متابعتها للسلسلة: «لا يغيب عن بالي ذلك اليوم الشتائي من بواكير عام 1978 عندما وقع بيدي مطبوع جديد حينذاك بعنوان (الحضارة) جاء ضمن سلسلة ثقافية كويتية بعنوان (عالم المعرفة)، قرأت الكتاب بشغف وراقني كثيرًا طاقم التحرير الذي يشرف على هذه السلسلة». وأبدت الأديبة بعض الملاحظات القيمة على حركة الترجمة العربية، أولها «تغليب شكل خاص من الأدب على المباحث المعرفية الأخرى»، وتضيف أن «العديد من الروائيين والأدباء العالميين صاروا أقرب إلى خبراء في ميدان العلم والتقنية والإشكاليات الفلسفية المعاصرة والمعضلات البشرية الكارثية التي باتت تهدد الوجود البشري». وتدعو «الدليمي» إلى الاهتمام بهذا النوع من الأدب لا «الأعمال الأدبية الخفيفة»، غير أن «الدليمي» تناقض نفسها بعض الشيء في إشارتها الى أدب ما بعد الحداثة، وتشتكي من رطاناتها الفكرية وصرعاتها، وتقول: «لطالما تساءلت وأنا أنهي قراءة كتاب يتناول موضوعًا من الموضوعات ما بعد الحداثوية (بنيوية، تفكيكية، تحليل الخطاب، ألسُنيات، سيمائية... إلخ) هل تستحق هذه الرطانات اللغوية المفككة العبء المسفوح في ترجمتها؟ هل ستسهم في تعظيم رصيدنا الثقافي والارتقاء بذائقتنا البشرية؟ فليست سوى رطانات تهدر المال والوقت والجهد، وبخاصة بعد أن تراجعت حركة ما بعد الحداثة وأخلت مواقعها للمصنفات العلمية والتقنية والفلسفية الرصينة»! ومن المترجمين الذين أبدوا عدة ملاحظات على نشاط الترجمة العربية، الكاتب السوري «نبيل سليمان»، ويقول إن الكثير من المترجمين «يقصقصون» الكتابات والروايات العربية بسبب فائض المجازات والاستعارات مراعاة لذائقة القارئ الأجنبي، ويلاحظ المترجم السوري «سليمان» «بروز ظاهرة إيثار ترجمة الأعمال التي حصلت على جائزة وكذلك غياب المحرر الأدبي عن أغلب دور النشر العربية». ويقول الشاعر والمترجم التونسي محمد علي اليوسفي: «إن كثرة المؤسسات العربية لم تحسن أحوال الترجمة والنشر كمًا ونوعًا، يضاف الى ذلك إصابة تلك المؤسسات بآفة الاحتفالات الرسمية». وأضاف «ما تشكو منه الترجمة في البلدان العربية ليس غياب المؤسسة، بل أساليب عملها وإدارتها ونوعية سلطة الإشراف فيها». ويختتم مساهمته غاضبًا مستاءً فيقول: «أينبغي علينا أن نترجم حتى نقرأ، أم أن المشكلة أوسع؟ نحن لا نقرأ أصلاً، ولا ننجح إلا في الترجمة العشوائية، مشكلتنا مشكلة حضارية أساسًا!». ماذا عن دول مجلس التعاون الخليجي؟ في الدول الخليجية كلها مؤسسات مهمة ونشطة في مجال الترجمة، فنرى في دولة الإمارات العربية مثلاً مؤسسة بالغة الأهمية واسعة النشاط في مجالات التأليف والترجمة وعقد الندوات، ونعني مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الذي أثرى المكتبة العربية بترجمة المراجع العسكرية والتاريخية الى جانب التقارير والبحوث المتخصصة، وفي البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية وقطر وعُمان تصدر كتب وترجمات كثيرة، ولكن ما مدى مساهمة المترجم الخليجي في هذا النشاط؟ تحدث في ملف «الفيصل» الشاعر والمترجم السعودي «عبدالوهاب أبوزيد» منتقدًا المساهمة الخليجية، بعنوان «الدور الرسمي الغائب في دعم حركة الترجمة في الخليج»، فأشار إلى «عالم المعرفة» ومشروع «نقل المعارف» في البحرين، «ولكن الملاحظة التي لا يجب أن نغفل عنها هنا هو أن السواد الأعظم من المترجمين ينتمون الى بلدان عربية بشكل عام، مع حضور هامشي للمترجمين الخليجيين. فمشروع (كلمة) على سبيل المثال، لم يسهم فيه إلا خمسة مترجمين سعوديين خلال عشرة أعوام منذ انطلاقته». كيف يمكن اجتذاب المزيد من الخليجيين رجالًا ونساء.. إلى مجال الترجمة؟ إن ملف مجلة الفيصل عن واقع الترجمة في العالم العربي إسهام يستحق الشكر والثناء، غير أن هذا «الواقع» يبقى للأسف في مكانه سلبًا وإيجابًا، ذلك أن مشاكل وهموم الترجمة والنشر في بلدان العالم العربي مسؤولية جهات عديدة، ويحتاج حلها الى جهد جماعي وتعاون بين مختلف المؤسسات، ولكنني أتساءل كالعادة عن حال الترجمة في الدول النامية وبلدان آسيا! ثم إننا نعرف أن إسرائيل متفوقة في مستوى الجامعات والحياة الأكاديمية والنشر وتأليف الأوراق العلمية وتأسيس مراكز الأبحاث، فماذا عن واقع الترجمة فيها؟ وما أسرار الترجمة والنشر هناك؟ اسألوا الكمبيوتر... وغوغل!
مشاركة :