بعث الرئيس التونسي المُنتخب، قيس سعيد، برسائل طمأنة إلى الفاعلين السياسيين داخل البلاد، وخارجها، في أول خطاب له تحت قبة البرلمان بعد أداء اليمين الدستورية، ليكون بذلك سابع رئيس لتونس منذ استقلالها في 20 مارس من عام 1956. وعكس هذا الخطاب بمفرداته وتعبيراته السياسية التي لم تخلُ من الشعارات بأسلوب خطابي أعاد إلى الأذهان “البيانات الثورية والخطابات الجماهيرية” خلال فترة سبعينات القرن الماضي، فائض قوة صناديق الاقتراع، الذي حصل عليه في الجولة الثانية من الاستحقاق الرئاسي المُبكر، الذي أعاد بنتائجه صياغة موازين القوى السياسية في البلاد. وأدى قيس سعيد، الذي فاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة 72.71 بالمئة من أصوات الناخبين على مُنافسه نبيل القروي الذي حصل على نسبة 27.29 بالمئة، اليمين الدستورية أمام أعضاء البرلمان المُتخلي، بحضور رؤساء تونس السابقين، باستثناء منصف المرزوقي الذي اعتذر عن الحضور. ويُعتبر أداء اليمين الدستورية ثالث شرط من الشروط التي ضبطها الدستور التونسي، قبل مُمارسة رئيس الدولة لمهامه، وذلك بعد التصريح بالمكاسب لدى هيئة مكافحة الفساد، وتوجيه وثيقة للبرلمان تثبت تعهده بعدم المزج بين مهمته الجديدة كرئيس للبلاد، وأي نشاط حزبي. وحضر حفل أداء اليمين للرئيس المُنتخب قيس سعيد، وفد برلماني مغربي برئاسة الحبيب المالكي، رئيس مجلس النواب، وحكيم بن شماش رئيس مجلس المستشارين، كمُمثلين عن العاهل المغربي، الملك محمد السادس. وبعد ذلك، ألقى قيس سعيد خطابا أبقى في مجمله على مساحة واسعة من الغموض حول توجهاته، ومنهجية عمله خلال عهدته الرئاسية التي ستمتد على مدى خمس سنوات، لم تُبددها رسائل الطمأنة التي سعى إلى توجيها للداخل والخارج، حول جملة من الملفات التي أثارت وما زالت تُثير حولها الكثير من السجالات السياسية بسبب مواقفه السابقة التي عبّر عنها خلال حملته الانتخابية. وحاول سعيد في خطابه إزاحة الغبار حول مواقفه التي أثارت جدلا خلال الفترة الماضية، وتحديدا تلك المواقف المُتعلقة برؤيته لمسألتي الحريات وحقوق المرأة، واكتفى بالتأكيد على أنه “لا مجال للتخلي عن الحريات، والمساس بحقوق المرأة”. وتعهد قيس سعيد بحماية الحريات، قائلا إن “الشعب الذي دفع ثمنا غاليا من أجل الوصول إليها وممارستها في إطار الشرعية، لن يقدر أي طرف على سلبه إياها تحت أية ذريعة أو تحت أي مسمى”، لافتا في هذا السياق إلى أن “من كان يهزه الحنين للعودة إلى الوراء، فهو يلهث وراء السراب ويجدف ضد مجرى التاريخ”. وتابع قائلا “… لا مجال للمساس بحقوق المرأة “، التي قال إنها اليوم في حاجة إلى المزيد من تعزيز حقوقها وخاصة منها الاقتصادية والاجتماعية، ليعود للتأكيد مرة أخرى على أن “كرامة الوطن من كرامة مواطنيه ومواطناته”. وإلى جانب هذه التأكيدات، اختار قيس سعيد التشديد مرة أخرى على أهمية استمرارية الدولة قائلا “… الكل يذهب ولكن الدولة يجب أن تستمر وتبقى… الدولة التونسية بكل مرافقها هي دولة التونسيين والتونسيات على قدم المساواة وأول المبادئ التي تقوم عليها المرافق العمومية هو الحياد”. وبدا قيس سعيد في خطابه مُستندا على قوة شرعيته الانتخابية، عندما تطرق إلى ملف الفساد الذي ينخر البلاد، حيث قال “… كل أحد من هذا الوطن يجب أن يكون قدوة… لا مجال للتسامح في أي مليم واحد من عرق أبناء هذا الشعب العظيم، وليستحضر الجميع شهداء الثورة وجرحاها وما زال العلم المفدى مخضبا بدمائهم.. آثروا الموت للتصدي لإهدار المال العام ولشبكات الفساد”. وفي ما يخص موقفه تجاه الإرهاب الذي يضرب البلاد منذ عام 2011، قال الرئيس التونسي”… من الأمانات أن نقف متحدين لآفة الإرهاب، وأن أية رصاصة من إرهابي ستُقابل بوابل من الرصاص الذي لا يحده عد ولا إحصاء”. غير أن هذه المواقف التي تضمنت تطمينات للداخل التونسي، خاصة وأنه أكد أنه سيكون رئيسا جامعا لكل التونسيين، لم تتوسع لتشمل بقية الملفات الأخرى، وخاصة منها ملف السياسة الخارجية للبلاد، حيث اكتفى بتوجيه عناوين عامة من قبيل التزامه بالمواثيق والمعاهدات، مع الإشارة إلى إمكانية إدخال تعديلات على بعضها. وأبقى في نفس الوقت الباب مفتوحا أمام مختلف القراءات فيما يتعلق بمجال تحرك الديبلوماسية التونسية الذي حدده بالمنطقة المغاربية، ثم الأفريقية، والمنطقة العربية، ثم منطقة شمال البحر المتوسط، دون ذكر لأميركا، ولا بقية الدول الفاعلة في المشهد الدولي مثل الصين وروسيا الاتحادية. ورأى مراقبون أنه بقدر مساحة الاطمئنان التي رسمها الخطاب لدى الداخل التونسي، فإنه بالقدر نفسه لم يُبدد الغموض من انخراط تونس -في عهده- في سياسة، الاصطفافات الإقليمية والدولية بعنوان الدفاع عن “قيم الثورة” التي ترددت في هذا الخطاب الذي كان يُفترض أن يأخذ بعين الاعتبار الإكراهات السياسية المُتنوعة، بما يفتح أفقا جديدا للحديث عن الوسائل والآليات الواجب اعتمادها لمواجهة التحديات الجسيمة التي تواجه البلاد
مشاركة :