تقهقرنا منذ زمن بعيد في سلم القراءة والوعي مع أننا أمة «اقرأ»

  • 5/9/2015
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

يجزم الناقد والأكاديمي المغربي د. فريد أمعضشو قائلاً: بالقراءة يحقق الانسان انسانيته كما يؤكد وجوده الحقيقي، فمن خلالها يسيطر على الطبيعة ويغزو الفضاء الخارجي، ويقول بالقراءة يٌصنع التغيير ويٌزاح ليل الجهالة والتخلف والفساد، ويضيف ليس من باب المصادفة أن يخاطب الله عزوجل رسوله عليه الصلاة والسلام أول ما خاطبه ب أقرأ، انما هي دلالة واضحة على أهمية القراءة، لكن نحن المسلمين للأسف تقهقرنا منذ زمن في سلم القراءة والوعي وصرنا نتذيل قوائم الشعوب والامم مع إننا أمة "أقرأ"، فتح لنا دفاتره وقلب اوراقه على منضدة قصتي مع كتاب ليحكي لنا تأثره في كتاب "مصطلحات النقد العربي لدى الشعراء الجاهليين والإسلاميين" للعلامة د. الشاهد البوشيخي. الملقب ب شيخ المٌصطلحيين المغاربة وأحد أقطاب الدراسة المصطلحية على الصعيد العربي، كاشفاً لنا ماتبقى في ذهنه إلى اليوم من افكار الكتاب ذاته ومن ذلك تأكيد المؤلف بأن أمتنا تعاني أزمة منهج في الأدب والفكر ناهيك عن غيرهما من المجالات الحياتية، فإلى الحوار: * ما الكتاب الذي أحدث تأثيراً فيك بعد قراءته؟ - في الحقيقة، ليس ثمة كتاب واحد فقط قرأته فتَرَكَ فيَّ أثراً، بل هناك عددٌ من الكتب، لعرب ولغير عرب، قديمة وحديثة، قرأتُها خلال فترات مختلفة، وكانت لها آثار عميقة في تكويني المعرفي وفي شخصيتي عموماً. ومن أبرز هذه الكتابات كتابُ "مصطلحات النقد العربي لدى الشعراء الجاهليين والإسلاميين" للعلاّمة د. الشاهد البوشيخي؛ شيخِ المُصطلحيّين المغاربة، وأحَدِ أقطاب الدراسة المصطلحية على الصعيد العربي كلِّه. وهو عملٌ نقدي رَصينٌ ووازن ومُميَّز من شتى جوانبه؛ إذ طرح تصورات وأفكاراً عميقة وجادّة، قدّمت إضافاتٍ نوعيةً للنقد العربي الحديث، ودقّق كثيراً من المفاهيم، ونبّه إلى أهمية الحُفول بدراسة أدبنا القديم من الزاوية المصطلحية، وقد صدَرَت طبعة الكتاب الأولى عامَ 1993، في جزأين؛ أفرَد المؤلِّفُ أولَهما لجرد أهمّ قضايا المصطلح النقديّ لدى شعرائنا القدامى إلى حدود منتصَف القرن الهجري الثاني تقريباً، وهذا الجزءُ من النّفاسَة بمَكانٍ؛ ولذا عَدَّه المرحوم أمجد الطرابلسي "متناً تشريعيا، على الأوساط العلمية المهتمّة بالمصطلح النقدي أن تتبنّاه، وأنْ تجعله لها شِرْعة ومِنهاجاً في كلّ بحث مستقبليّ في هذا الميدان". على حين خصَّ الجزء الثاني بدراسة نماذج من المصطلح العربي القديم باعتماد منهج فريد، أرْسى أسسه ومعالمه البوشيخي في عمله النقدي الأول عن المصطلح النقدي والبلاغي في كتاب "البيان والتبييُّن" للجاحظ (ت 255ه). والواقعُ أن بداية علاقتي بكتاب "مصطلحات النقد العربي..." تعود إلى أواخر الألفية الماضية، أيامَ الطلب المعرفيّ بجامعة محمد الأول بوجدة، حين كنّا ندْرس نُصوصاً منه، في مادة النقد العربي القديم، لدى أحد تلاميذ الشاهد حفظه الله، وتوطّدت تلك العلاقة وتقوَّت، بعد ذلك، لَمّا سارَعْتُ، مِنْ فور سماعي بعنوان الكتاب، وتعرُّفي إلى بعض أفكاره وطروحاته، إلى البحث عنه في المكتبات، وأتذكّر أنه لم يَمْضِ سوى وقت قصير حتى ظفرْتُ بنسخةٍ منه، من فرع رابطة الأدب الإسلامي العالمية بالمغرب العربي، ومقرُّه بوجدة شرقَ المملكة المغربية، أيْنَ كنتُ أتابع دراستي الجامعية؛ فأكْبَبْتُ على قراءته بنهمٍ، وإعادة قراءته مرّات، إلى أنْ أضْحَيْتُ أحفظ أجزاء منه عن ظهر قلب، ناهيك عن قضاياه ومضامينه. وما زلتُ أحتفظ بوُرَيْقات كنت أسجّل عليها فِقْراتٍ أو مقتطَفات من الكتاب لحفظها، وإغناء رصيدي المعرفي بها، الذي كنت أفْزَعُ إليه كثيراً عند تحرير مواضيع إنشائية خلال الاختبارات الكتابية، أو مقالات حتّى. وبالنظر إلى عُمق الكتاب، وطابعه العلمي الأكاديمي، وتشعُّب مسائله وفِكَرِه، فقد كنتُ أتخيّر الوقت الملائم لقراءة ما تيسّر منه، وهو الصباح الباكر حيث تكون القدرة الاستيعابية أقوى؛ كما هو معروف، وفي المساء كنتُ أعْمِدُ - أحياناً - إلى التأمّل في الجذاذات المُعَدّة انطلاقا من تلك القراءة، وإنعام النظر فيها تفكيكا وتحليلا ومناقشة. ومن طقوسي في مثل هذا الحال تَهْيِيءُ جوّ القراءة والمطالعة، والذي لا بدّ أن ينتفي فيه الصخب والضجيج، وإحضارُ مشروب ساخن (الشاي المُنَعْنَع غالباً)، علاوةً على موسيقى هادئة، بصوت خَفيض إلى أقصى درجة، أحياناً... * ما نوع التأثير. وهل أنت مقتَنِع بالتأثير. ما مدى استمرار تأثيره؟ - اعتباراً لِما ذكرْناه عن كتاب البوشيخي، فقد وَصَفه أحدُهم بأنه "كشف عظيم جدير بالتقدير" وهو كذلك حقيقةً؛ لذا فإن فرضية تأثيره في قرّائه كانت واردة جدّا منذ صُدوره، ولو رُحْنا نحْصي عددَ مَنْ تأثر به، وب"مدرسة" الشاهد البوشيخي في الدراسة المصطلحية عموماً، لكانتِ الحصيلة المئات من الباحثين والأعمال الأكاديمية في مختلِف كليات الآداب بالمغرب وخارجه كذلك. وبعبارة أوْجَز، أقول إنّ التأثير الأبْرَز لكتاب الدكتور الشاهد البوشيخي فيَّ كان منهجيّا، وبعد ذلك فكرياً ولغوياً صِياغيّاً. وهذا يقتضي، لزاماً، اقتناعي به عن وَعْي وبصيرة. لذا كان لا بدّ أن أترْجم هذا الاقتناع الراسخ، وذاك التأثر المنهجي بالكتاب، على مستوى الممارسة والفعل؛ فعمدْتُ إلى تطبيق طريقته في الدرس المصطلحي في جملة من أعمالي ومقالاتي المنشورة في مجلات وطنية وعربية، وفي بَحْثيَّ لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمّقة (2004)، والدكتوراه في الآداب (2010)، التي تمحور موضوعُها حول دراسة المصطلح النقدي، ورصْد أهمّ قضاياه، في كتابات الجزائري د. عبدالملك مُرْتاض النقدية، متوسِّلاً إلى ذلك بمنهج الدراسة المصطلحية بمفهومه الخاصّ الذي أشرْتُ، قبْلُ، إلى معالمه الكبرى، وخُطْواته الأساسية؛ هذا المنهج الذي قادني إلى خلاصات علمية مؤسَّسة. وما زال ذلك التأثير مستمرّا لاقتناعي التامّ بوَجاهة المنهج المذكور، ونجاعته في المعالَجَة، وصلاحيّته لأنْ يُطَبَّق في مجال دراسة المصطلح؛ قديمِه وحديثِه. ولا مناص من الإشارة إلى أنّ هذا الاقتناع لا يمنع من التفكير في تطوير منهج الدرس المصطلحي ليتجاوز محطّتي الوصْف والتأريخ، في اتجاه خطوات أرْقى؛ مِنْ مِثل الموازنة والمقارنة وغيرهما. * هل ترى أن القراءة محرِّك أو دافِع للتغيير في وقتنا الحاضر؟ - أعتقد جازماً أنه لا يختلف اثنان في هذه المسألة. فبالقراءة تتقدّم الشعوب وتتسيَّد، وبها يحقق الإنسان إنسانيته ووجوده الحقيقي، وبها يسيطر على الطبيعة ويغزو الفضاء الخارجي النائي جدّا، وبها يُصْنَع التغيير ويُزاحُ ليلُ الجهالة والتخلف والفساد لفسْح المجال أمام بُزوغ فجرِ غدٍ أفضل يَنْعم فيه الإنسان بالسعادة والهناءة، ويشعر بقيمة ذاته وبكونه عُضواً فاعلاً في مجتمعه وأمَّته. وليس من باب المُصادفة أن يخاطب الله عزّ وجلّ رسوله صلى الله عليه وسلم، أوّلَ ما خاطَبَه، ب"اقرأ". بل إن في ذلك أوضحَ دلالة وأبلغَها على أهمية هذا الفعل القصوى، بالنسبة إلينا -نحن المسلمين- بالدرجة الأولى. ولكنّ المُؤسِف، حقّا، أننا تقهقرْنا، منذ زمن بعيد، في سلّم القراءة والوعي، وصِرْنا نتذيَّل قوائم الشعوب والأمم في هذا المؤشِّر الحاسم في الحياة الإنسانية، مع أننا - ويا لَلْمُفارَقة- "أمة اقرأ"!!

مشاركة :