نقد اليمين في أفلام «اليميني» كلينت إيستوود

  • 10/25/2019
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

بينما يعمل كلينت إيستوود على مرحلة ما بعد التصوير لفيلمه التاسع والثلاثين، الذي انتهى من تصويره قبل أسبوعين تحت عنوان «رتشارد جوويل» (Richard Jewell) تتبدى خارطة أفلام هذا المخرج - الممثل - المنتج مثل بستان ثري. 62 فيلماً من تمثيله، 39 فيلماً من إخراجه، 40 فيلما من إنتاجه، 9 أفلام كتب لها الموسيقا و89 سنة تعلو قامته. هو سينمائي من رعيل يكاد ينضب، لكنه ما زال مستمراً تتسع ابتسامته قبل التصوير وبعده وينجز الأفلام في وقتها و- في الكثير من الأحيان - تحت الميزانية. أعماله الكثيرة رائعة في مجملها. كأي سينمائي آخر شهد زلات وكبوات (ممثلاً ومخرجاً) لكنه تجاوزها وبقيت أقلية صغيرة بين مجمل السينما التي حققها في أي من خاناتها وحقولها. رغم ذلك هناك، في الشرق وفي الغرب، من يقرأ كل أفلامه من منظور واحد وهو أن إيستوود سياسي جمهوري ويميني متعصب. إيستوود ينفي التعصب لكنه لا ينفي إنه يميني. بعض أفلامه («فايرفوكس»، 1982 و«هيرتبريك ريدج»، 1986) تؤكد ذلك، لكن ما يفوت المنتقدين أن العديد من أفلامه تنتقد اليمين وأحياناً بضراوة. - أجندة سنعتبر أن «ماغنوم فورس» (1973) مدخلاً مناسباً ولو أنه، في الوقت ذاته، غير نموذجي. هو الفيلم الثاني في سلسلة من الأفلام البوليسية التي بدأت قبل ذلك التاريخ بسنتين. بدأت بفيلم «ديرتي هاري» الذي أخرجه دون سيغال. ذلك الفيلم قدّم شخصية هاري كالاهان التحري في بوليس مدينة سان فرانسيسكو المشهور عنه تصدّيه للخارجين عن القانون بقوّة الماغنوم. ليس لديه نية في تسليم الجاني إلى القضاء إلا إذا استسلم تماماً ما يجعله القاضي والجلاد. قوبل الفيلم باستحسان عام (وحقق مالا وفيراً) لكن عدداً من النقاد وجد الفيلم عاكساً لروح يمينية وفاشية. هذا دفع بإيستوود بتغيير المخرج سيغال (تشهد أفلامه بتعصبه) واستقدام تد بوست ليحل مكانه وليروي حكاية التحري كالاهان وهو يجابه شلة من رجال البوليس الذين نظموا فيما بينهم خلية تقوم باغتيال شخصيات يعتبرونها مجرمة لم تثبت عليها التهم التي كيلت ضدها. هذه العصبة يمينية وهاري كالاهان ضدها ويقوم بكشفها وتصفيتها. وهو يختلف هنا عما عكسه سابقاً فهو أكثر هدوءاً وأقل استعراضاً لذاته. أكثر من ذلك يقول ردّاً على ملاحظة زميل له حول شبان تلك العصبة «لا أكترث إذا ما كانوا مثليين أو لو كان الجهاز كله مثلي طالما ينجزون أعمالهم جيداً». هذه عبارة ليبرالية واضحة تساهم في تخفيف حدّة النقد الذي واجهه الفيلم الأول. يمكن اعتبار حركة إيستوود هنا حركة تكتيكية أكثر منها حركة تصحيحية، لكن لاحقاً ما ستتبدى أفلام أخرى خارجة من نطاق «التكتيك» إلى المراجعة الكاملة. في «قفاز التحدي» (The Gauntlet، إخراج إيستوود) يستبدل إيستوود شخصية رئيس البوليس الفاسد في «ماغنوم فورس» (كما أدّاه هال هولبروك) برئيس بوليس فاسد آخر (ويليام برنس) أصدر أوامره بقتل التحري بن (إيستوود) والشاهدة التي عليه أن يحميها (ساندرا لوك). وهناك مشهداً معاديا للمثلية في «الهروب من آلكاتراز» (لدون سيغال أيضاً). ثم تمر أعوام كثيرة قبل أن نلحظ دفعه لأجندة المساواة في «غير المسامَح» (Unforgiven): وسترن رائع ينتقم فيه إيستوود مما وقع لصديقه الأسود (مورغن فريمن) من اعتداء عنيف أدى لمقتله. في باطن هذا الانتقام واعز آخر دفاعاً عن مومسات تم ضرب إحداهن وتشويه وجهها. الشرير الأول في هذا الفيلم هو الشريف القاسي والعنصري والسادي (جين هاكمن) أما الليبرالي بل موني (إيستوود) فسيعدمه وكل رجاله. في أحد المشاهد المهمة يفخر الشريف، أمام الصحافي (صول روبنك)، بمنزله الذي شيّده بنفسه. فجأة تمطر السماء فإذا بالماء يهطل داخل البيت من خلال العديد من الفجوات. إذا لم يكن ذلك نقداً للمؤسسة فهو ليس نقداً على الإطلاق إذن. جين هاكمن كذلك هو رئيس الجمهورية الذي يرتكب جريمة قتل في «سُلطة تامة» (Absolute Power) ومورغن فريمن هو نيلسون مانديلا، محرر الأفريقيين في جنوب أفريقيا. إيستوود خفيف الحاشية في دور الصحافي الذي يندفع لتبرئة شاب أسود (إسايا واشنطن) محكوم عليه بالإعدام في «جريمة حقيقية» (1999) من بطولته وإخراجه. - قبول بواقع جديد وهو نصب فيلمه الرائع «رسائل من إيوو جيما» (2006) دفاعاً عن اليابانيين المحاصرين في كهوف جزيرة أيوو جيما خلال الحرب العالمية الثانية. هذا قبل أن يقدم على مراجعة موقفه الذاتي حول علاقاته مع العناصر غير البيضاء الأخرى في فيلمه الممتاز «غران تورينو» (2008) حيث نجده يكتشف ثقافات الجيران الآسيويين التي لم يكن منفتحاً عليها. ثم نرى إيستوود يرسم صورة ديكتاتورية لليميني رقم واحد ج. إدغار هوڤر الذي تمتع برئاسة «مكتب التحريات الفيدرالية» لعقود في فيلمه «ج. إدغار» (قام بالدور ليوناردو ديكابريو). الصورة التي يرسمها إيستوود وسيناريو دستين لانس بلاك عن هوڤر داكنة، مشغولة بنصب نفسها على سدة رئاسية تحاكم المثقفين والمشكوك بولائهم لأميركا وتتجسس عليهم. شخصية مشغولة بتنفيذ «أجندتها» ولو تحوّل مكتب التحقيقات الأميركي إلى جهاز قمع. هذه الصرخة القوية يغلفها إيستوود، كما الحال في كل هذه الأفلام، بالسرد الهادئ في نبرته، النافذ في رؤيته والباحث عن المفاد والهوية الوطنية في نتيجته. الحال هو كذلك في «أميركان سنايبر» (2014) أحد أكثر الأفلام التي سورع في إساءة فهمها منذ أن نطقت السينما في مطلع الثلاثينات. اتهم نقاد أجانب وعرب الفيلم بأنه معاد للعراق ومع البطل الأميركي المتمثل في القاتل كريس كايل (برادلي كوبر). لم يلتفت أحد إلى أن المخرج مهّد للفيلم بإظهار كيف أن العنف في أميركا مدان كونه ينتقل بما يشبه الوراثة، ولا لهوس بطله بالقتل (لا يمكن أن يكون ذلك تأييداً له) ولا للسخرية منه عندما يرتدي قبعة «كاوبوي» ولحقيقة إنه لم يشأ تصوير جنازته عندما مات بالسلاح الأميركي الذي حارب به. كل هذه «التمريرات» الذكية فاتت أصحاب القرارات الذاتية من النقاد الذين يرون ما يريدون رؤيته فقط. فيلم إيستوود الأخير (2018) «البغل» (The Mule) هو فيلم آخر من تلك الأعمال الكاشفة. حكاية رجل عجوز (يؤديه إيستوود) يشترك بتهريب المخدرات عبر الحدود المكسيكية ويجد في ذلك خلاصاً من أزمات اجتماعية وعاطفية (ومالية) متعددة. إيستوود يقف أيضاً أمام الكاميرا بعد غياب 10 أعوام منذ «غران تورينو». ومثل ذلك الفيلم يوفر شخصية تكتشف موقعها في عالم متغير لا بد من التسليم به. عالم يضم السود والبيض والمكسيكيين والآسيويين، لبنة الحياة الاجتماعية الأميركية التي لا يمكن دحضها. يحترم الآخر وينجز عمله كمهرب بعدما فشل النظام في تأمين حياته كما كان يتمنى. هذا كله جزء من سينما إيستوود المتماوجة. سنجد بالطبع أفلاماً سابقة حملت وجهات نظر مختلفة، لكنها سبقت التقاء نظرته الواقعية على محيطه الاجتماعي مع حاجته للتعبير عما رآه يستوجب النقد حتى ولو كان ضد اليمين.

مشاركة :