قراءة في ديوان «تهويدة لنجمة البحر» للشاعر علي عبدالله خليفة

  • 10/26/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يقول الشاعر «كَـأَنَّ الرُّفـات الـذي تَـحْـتَ هَـذا الرُّخـام /‏ لـَهُ خِـلْـجَــةٌ بَـيْـنَ حِـيـنٍ وَحِـيـن /‏ أُحِـسُّ بـهـا رَعـشَـةً في جَلال الـنّـقُـوش /‏ وَأنَّ الرّخَـامَ يَـنِـثُّ عُـطُـورَ الـوُرُودِ /‏ الـتي ضَـمَّـخَـتْ جَـسَـدًا كَـانَ يَـومـًا وَذاب /‏ وَيَرشَـحُ مِـسْـكًا تَـدَفَّــأَ تَـحْـتَ الـجَـدائـلِ.. سَـالَ /‏ وَأَسْـدَلَ مِـن حَولِـهِ أَلـفَ خَـيْـطٍ وَخَـيـطٍ /‏ مِنَ الزَّعْــفَـران».إن المتن يستدعي رهافة الجسد الأنثوي لممتاز محل (المعشوقة) في وصف يمنح الرفات الحياة ويبث في جنباته العنفوان حين تستشعر انتقال نبض الحياة من جسد المعشوقة إلى قلب الرخام القاسي فإذا به (يَـنِـثُّ عُـطُـورَ الـوُرُودِ /‏ الـتي ضَـمَّـخَـتْ جَـسَـدًا كَـانَ يَـومـًا وَذاب) بل إن المتخيل الشعري يماهي بينهما (لـَهُ خِـلْـجَــةٌ بَـيْـنَ حِـيـنٍ وَحِـيـن /‏ أُحِـسُّ بـهـا رَعـشَـةً في جَلال الـنّـقُـوش)، هو تماه ينجح في أن ينزع عن الحجر تشيأه ليبدو نابضا بالحياة وينزع عن جسد (المعشوقة /‏ممتاز محل) الاندثار ليبدو متمردا على قاموس الموت والفناء، لذلك نجد المتخيل الشعري يوصل لأفق التلقي رسالته في استهلالة المشهد التالي، لاحظ الآتي: «كُـلُّ هَـذا الـبَـهَـاءِ، وَهَـيـبَـةُ عِـشْـقٍ /‏ تَـداولَ عَـبْـرَ السِّـنِـيـنِ الحَياة».إلا أن المتخيل الشعري يعود إلى هالة البياض التي غلفت المكان (قصر تاج محل) ليباغت التلقي باستدعاء وجه الابنة (الحاضرة /‏ الغائبة)، تأمل الآتي: «كَـأنِّي لَـمَـحْـتُ لـلَـيْـلايَ وجْـهـًا هُــنا /‏ رُبَّـما صُـورةً خَـايَـلَـتْ.. إنـَّـهـا../‏ يـا نَـعَـمْ.. إنَّـهـا، عِـنـدَ هَـذا البَـيـاضِ../‏ نَـعَـم.. هـاهـنـا».من الواضح أن المتخيل الشعري يقرن الحضور البهي لـ(ليلى (ليلاي) /‏ الحاضرة /‏ الغائبة) ببهاء البياض الذي انداح بجلال على المتن الشعري منذ السطر الأول للاستهلالة (كانَ المدى أبـيَـضَ.. /‏ من ضَـبـابٍ كَــثـيـف)، بل إنك تستشعر تماهي الحلم بالصحوة من خلال انتقال الصورة من أفق الاحتمال (كأني ربما) إلى اليقين (يـا نَـعَـمْ.. إنَّـهـا نَـعَـم.. هـاهـنـا) وقد أكد هذا العبور إحاطة حضورها البهي المؤكد بالخرم الطباعي في (.. إنـَّـهـا..) الذي يخرم الاحتمال باليقين وبالعكس لتلتبس صورة الغياب بلحظة الحضور فتمنح الأنا الساردة المكلومة بالفقد سانحة الانغمار في بهاء الحضور الذي يمنحها الإحساس بالغبطة والنشوة، تأمل كيف راح المتخيل الشعري يغوص في رحم الماضي ليستجلب اللحظات المترعة بحضور تلك الغائبة ويصف لك ملامحها الخارجية بنشوة عارمة: «جَـدائِـلُـهـا مُسْـدَلَـة.. /‏ وزنـّـارُها الأحـمـرُ المــنــتـــقـى /‏ وتـلـك هـيَ الـبَـسـمَـة الآمــنَـة /‏ تَـدُسُّ أَصـابـعَـهـا في يَــدي /‏ وَوَمْـضُ ســؤال ٍ لَـهـا.. /‏ طِـفـلَـةٌ رافَـقَـتـني زَمَانـــًا مَضى /‏ عَـبرَ هَـذا المـكان /‏ طِـفـلَـةٌ تُـمْـسِكُ اللَّـيلَ.. تَـدنـُو بـِهِ /‏ نَـحـوَ صُبحٍ جَـديـدٍ /‏ لـتَـغـدُوَ في السّـنَـة الــثــّـامـنــة».إن المتخيل الشعري لم يستحضر تفاصيل ليلى (جدائلها زنارها الأحمر سنواتها الثمانية) فقط، وإنما استدعاها نابضة بالحياة (البسمة الآمنة) والإحساس بالمسرة العارمة المستنبطة من (تَـدُسُّ أَصـابـعَـهـا في يَــدي)، فضلاً عن أن طبيعة الحوار بين الأنا الساردة وليلى (وَوَمْـضُ ســؤالٍ لَـهـا..) كشف عن عمق الصلة بينهما، إلا أن المتخيل الشعري وبحركة مباغتة يعبر من الماضي إلى اللحظة المائلة عبر مونولوج الأنا الساردة (طِـفـلَـةٌ رافَـقَـتـني زَمَانـــًا مَضى) ليعود إلى رحاب المكان (مرتكز النص ومنطلقه /‏ (عَـبرَ هَـذا المـكان))، تأمل كيف نجح المشهد التالي في أن يكثف الزمن الماضي ليغدو فضاء المشهد واحة غنّاء ترفل بالحضور البهي لليلى المولعة بحكايا الشاعر - الأب وما يثيره من سعادة غامرة: «في انـبـهَـارٍ بجـوِّ المـكان /‏ وَمِن حَولنا الزّائرونَ حُـشُـود /‏ أَقُـصّ عَـلـيـهـا الذي كانَ يـومًا /‏ وَخَـلَّـفَ هَـذا الأثَـر.. /‏ وَ مَـن يـا تـُرى هـاهُـنا؟ /‏ وَ من ذا الذي قَـدْ بَـنى /‏ لمحـبُـوبـهِ مَـنـزِلاً في الـثّـرى /‏ وَنـامَ قَـريرَ السُّـبات لـكَي لا يَـكونَ الـفِـراق؟».إن المتخيل الشعري يعكس وبمهارة انغمار الشاعر في حكاياه وحركة يديه وهو يشير إلى المكان وحركة عينيه اللتين تتحركان بين ليلى الشغوفة بالحكايا وبين بهاء المكان في إطار لوحة نادرة للأبوة، أضف إلى ذلك أن الصوت المهيمن على النص هو صوت الأنا الساردة المبهورة بالمكان وببهاء عمارته وبقصته المأخوذة من قاموس العشق الإنساني الخالد للمعشوقة (ممتاز محل) في مقابل تفكّر (الذات المصغية داخل النص /‏ الطفلة ليلى) بخلود الحجر مقابل غياب الأحبة (نـامَ قَـريرَ السُّـبات لـكَي لا يَـكونَ الـفِـراق)، ودخولها في دوامة الأسئلة التي كانت تسفه فكرة الخلود التي يهزمها الموت في جبروته، تأمل كيف عاد (ومض السؤال) الى خاتمة القصيدة مرة أخرى: «أَطْـرَقَـتْ حَـيْـرَةً: كُـلّ هـذا وَ مَـات..؟! /‏ غَـدًا، كُـلُّـنا، بَـعْـدَ حِــينٍ، سَـنَـغـدو تـُـراب..؟! /‏ كـكلّ الـبَـرايا نَـعُـودُ تُــراب..؟! /‏ لمـاذا نَـمُـوتُ.. نَـمُـوتُ أَبي.. /‏ وَيَـبْـقى الحَـجَر..؟».من اللافت أن المتخيل الشعري وبوعي دلالي حاد يختم القصيدة على صوت ليلى (الحاضرة/‏الغائبة) وحده وهو يطرح تساؤلاته المفجعة، وهي تساؤلات تتناسل في أفق التلقي لتكشف عن عجز الإنسان وهزيمته أمام ملكوت الغياب والفقد ولغز الموت الذي يخلد أمامه الحجر لتغيب الأرواح الشفيفة مخلفة وراءها أرواحًا تشقى بالغياب. وقد فضح إغلاق المتن على مفردة (الحجر) الرغبة في ربط الخاتمة بمفتتح القصيدة الذي استحضر (حجر) الشاعر المخضرم ابن مقبل المهزوم أمام سلطان الفقد وأمنيته المستحيلة في صيرورته حجرًا لا يستشعر فقدان الأحبة وغيابهم (ما أطيَبَ العَـيْـشَ لـو أنّ الفَـتى حَـجَـرٌ) لتشف عنونة القصيدة عن معناها المسكوت عنه والذي يحيل إلى الاعتراف الضمني بانتصار العدم وجبروته (تاج على رأس الثرى).

مشاركة :