«إن الناس لا تعرف أن كتابا واحدا كفيل بأن يغير مجرى حياة الإنسان» مالكوم إكس انتهينا مؤخرا من قراءة ومناقشة كتاب السيرة الذاتية: «مالكوم إكس» لمؤلفه أليكس هيلي صاحب الرواية ذائعة الصيت «الجذور»، وذلك من ضمن قراءات (منتدى مرافئ الثقافي) المؤسس حديثاً. لم تكن قراءة هذه السيرة هي الأولى بالنسبة لي شخصياً حيث قرأت الكتاب من زمن قديم ولكن باللغة الإنجليزية وهي الأكثر دقة وتأثيراً بالمقارنة بالترجمات التي غالباً لا تخلو من ضعف في المفردات أو الصياغة أو الأسلوب. لا شك أن كلمة «رائع» أو «آسر» هي أقل ما يمكن أن يوصف به الكتاب الذي صنفته مجلة «تايم» عند نشره كأحد أهم عشرة كتب غير روائية في القرن العشرين. فالكتاب ليس مجرد سرد روائي تقليدي لحياة شخص كان له أثر بارز، وإنما هو استكشاف لمعالم شخصية إنسان عظيم لم يُكتب له أن يعيش طويلاً، ولكنه قدم حياته فداء للمبادئ التي يدافع عنها والقيم التي يتبناها. ولد مالكوم في عام 1925 في مجتمع تميز بالعنصرية الشديدة واستبداد الرجل الأبيض، حيث كانت إحدى صوره المفزعة اغتيال والده بطريقة بشعة على يد جماعة عنصرية متطرفة، وما أعقب ذلك من تفكك للأسرة الوادعة وإدخال أمه لأسباب عنصرية المصحة النفسية. لم يكن عند «مالكوم الصغير»، كما عرف في تلك الفترة، الكثير من الخيارات وهو يُدفع دفعاً إلى حياة دنيئة مليئة بالأرذال، فانغمس في الإدمان والدعارة والإجرام في سن مبكرة حتى انتهى إلى السجن وهو لم يبلغ العشرين من العمر. هناك في السجن تعرف مالكوم إكس على جماعة «أمة الإسلام» التي يرأسها «ألايجا محمد» فكانت تلك لحظة مفصلية في حياته الحافلة، حيث يعبر عنها في قوله: «وهناك، أمام تلك النافذة عاهدت الله على ألا أنسى أن الإسلام هو الذي أعطاني الأجنحة التي أحلق بها، ولم أنس ذلك أبدا… لم أنسه لحظة واحدة». لقد كان لجماعة «أمة الإسلام» دور مهم في إحداث تلك الطفرة الكبيرة في شخصية مالكوم إكس الذي تبنى نظرة الجماعة المتطرفة إلى الرجل الأبيض بأنه مخلوق شيطاني ولا سبيل لحياة أفضل للرجل الأسود إلا بالعيش في مجتمع منفصل أو العودة إلى المكان الذي ولد فيه وهو إفريقيا. لقد امتازت هذه الفترة أيضاً بشعور مالكوم إكس بالامتنان العميق الذي وصل إلى درجة التقديس لرئيس جماعة أمة الإسلام (ألايجا محمد) الذي اعتبره مالكوم السبب الرئيسي في تحوله المذهل ومعرفته الجديدة للحياة والأهداف التي سيكرس نفسه من أجلها. إن المميزات القيادية الكامنة في شخصية الإنسان تحتاج إلى البيئة المناسبة لتنمو وتبرز. وهذا ما توافر لمالكوم إكس وهو يرى نفسه المحرك الأكبر للجماهير السوداء ذات العاطفة الجياشة التي تتطلع بشوق الى من يخلصها من قيد العبودية والاستبداد، فأصبح من دون اختيار من نفسه، القائد الملهم للجماعة والمتحدث الأكثر تأثيرا في أمريكا في فترة قصيرة، فتبعته وسائل الإعلام وامتد خبره في العالم كله فتهافتت عليه الصحف ومحطات التلفزة ووصفته بأنه: «الزنجي الوحيد في أمريكا الذي يستطيع أن يبدأ التمرد أو يوقفه». إن الإنسان المشهور الذي تتوجه إليه الأنظار قد يأنف في أحايين كثرية من الاعتراف بالخطأ أو التراجع عن بعض مواقفه الخاطئة. لم يكن مالكوم إكس أحد أولئك بالتأكيد، وإنما كان نقيا مثل الماء في تعامله مع شعبه وتضحياته من أجلهم، كما كان صلبا مثل الحجارة وهو يقف في مواجهة عنصرية الرجل الأبيض من أجل استرجاع الحقوق المسلوبة للشعب الأسود وإنسانيته المستباحة. كانت إحدى اللحظات المفصلية الأخرى في حياة مالكوم أو «مالك شباز» هي تعرفه على الإسلام الصحيح بعد زيارته للبيت الحرام وأدائه مناسك الحج واختلاطه بالمسلمين من مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم. لم يجد مالكوم حرجا من أن يقف ليراجع آراءه الراديكالية السابقة، وخصوصاً في ظل الحقائق الجديدة التي بدأت تتكشف له فيما يتعلق بانحرافات جماعة (أمة الإسلام) العقائدية والتناقضات الأخلاقية في شخصية قائدها، فأعلن انفصاله عن الجماعة وتأسيسه اتجاها جديدا من النضال بحسب معرفته الجديدة التي اكتسبها. أصبح مالكوم إكس في نظر الجماعة التهديد الأكبر لتقويض أسسها التي قامت عليها وإفقادها شعبيتها التي اكتسبتها منذ التأسيس، فأظهرت العداوة له وبدأت في التآمر على قتله. ويبدو من الروايات المتعددة التي أعقبت ذلك أن مخطط الاغتيال لقي ترحيباً غير معلن من قبل المخابرات الأمريكية التي أصبحت شخصية مالكوم تمثل لها إزعاجا حقيقيا. يروي أليكس هيلي في تعقيبه المهم على «الذكريات» بأن مالكوم كان يتنبأ بموته القريب فيقول: «ولقد أصبحت أعيش وكأنني ميت… وأقولها بيقين لأنني أعرف مما وصل إلى علمي أنني لن أعيش لأقرأ هذا الكتاب». وهذا ما حدث حيث اغتيل -رحمه الله- في عام 1965 من قبل أعضاء في الجماعة وهو يستعد لإلقاء خطابه الأخير أمام الجماهير المتطلعة إليه وزوجته وبناته. لقد رحل مالكوم إكس في سن مبكرة لم يبلغ فيها الأربعين سنة كما يرحل العظماء بعد حياة قصيرة ولكنها حافلة بالتضحيات والنضال والإخلاص من أجل استرجاع حقوق الشعب الأفرو أمريكي المسلوبة وإنسانيتهم المبتذلة. إن حياة مالكوم المليئة بالكفاح والتضحيات والقيم الإنسانية الرفيعة تستحق أن تدرس بعمق لتكون مصدر إلهام حقيقي لقيم وأخلاقيات بدا أنها مغيبة في عالمنا المعاصر. رحم الله الحاج مالك شباز وأسكنه فسيح جناته.
مشاركة :