من خلال هذه الآية المُباركة نجد أنفسنا مُضطرين للتساؤل عن معاني كلمات أُخرى ذات صلة وثيقة مع كلمة «أبق»، وبعد التروي نجد أنفسنا أمام عائلة مكونة من ستة أفراد تجمعهم علائق متينة ويفرقهم أمر بسيط، يُعطي كل منهم خصوصيته، فنحن وجها لوجه أمام «أبق، أدبر، فرّ، هرب، انهزم، ولّى» ولننظر الآن بالمشترك والمُختلف بين تلك المُفردات، من خلال الاستعمال القرآني الدقيق لكل لفظة من تلك الألفاظ، لنتبين الفرق بينها، والحالات التي اُستعملت فيها كل مفردة دون غيرها. أبِق: هروب العبد من سيده عصيانا، ولا تُطلق إلا على هذه الحالة من الهروب، فسيدنا يونس ذهب مُغاضبا فارا من غير أمر سيده «الله» ولولا أنّه استرجع وأناب وكان من المُسبحين للبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، (وإذ أبق إلى الفُلك المشحون) 140 الصافات. أدبر: والإدبار ذهاب من دون أن يلتفت، ويُقال أدبر الشخص إذا ذهب ومضى وولّى، (والليل إذا أدبر) 33 المُدثر، وتُستعمل مع الظواهر الطبيعية كما مع الإنسان، (ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم) 40 ق، وقوله تعالى (تدعو من أدبر وتولّى) 17 المعارج، وقوله (ثمّ أدبر واستكبر) 23 المُدثر وفي النازعات 22 نقرأ قوله تعالى: (ثمّ أدبر يسعى) وكلها تؤدي المعنى المُشار إليه، وتقترب منها كثيرا مُفردة «ولّى» إذ يُقال «ولاه دبره أي انهزم» (وألقِ عصاك فلمّا رآها تهتز كأنها جان ولّى مُدبرا ولم يُعقب...) 10 النمل، أي لم يلتفت، (إنك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصُّم الدعاء إذا ولّوا مُدبرين) 80 النمل، هروب من دون تعقيب. فرّ: لا تبتعد عن معنى الهروب مثل أبق وأدبر وولّى، ولكنه هروب بخصوصية خاصة وهي ترك المكان خوفا.... (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولمُلئت منهم رُعبا) 18 الكهف، (ففرت منكم لمّا خِفتكم...) 21 الشعراء، (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه مُلاقيكم...) 8 الجمعة، (فرّت من قسورة) 51 المُدثر، وقوله تعالى: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مُبين) 50 الذاريات، والهروب تُستعمل عندما يطرأ تغير على معنى الفرار، فلا يكون الفرار هو المعنى المناسب للتعبير عن الفرار السريع والاختفاء عن الأعين نهائيا، وهذا الاختفاء ليس من لوازم الفرار، (وإنا ظننا أن لن نُعجز الله في الأرض ولن نُعجزه هربا) 12 الجن، لا مجال ولا أمل في الاختفاء عن عين الله التي لا تنام، ولكنه يجوز عن أعين البشر بحيث لا يرونه، نلاحظ أن للهرب دلالة متطورة عن الفرار. هزم: مصطلح خاص، يُستحضر فقط حين يلتحم الجيشان في المعركة، مع أنه يؤدي نفس المعنى وهو الهروب، ولكنه هروب خاص بموقف خاص لذا لو استعرضنا الأمثلة القرآنية وجدناها في هذا المضمار لا تخرج عنه، ففي قوله تعالى: (فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت) 251 البقرة، هروب على أثر معركة، (سيُهزم الجمع ويولون الدُبر) 45 القمر فهُزموا يوم بدر، والهزم يعني الكسر المُفضي إلى الفرار، ويُقال هزيم الرعد لأنه يكسر القلوب والنفوس. هذا مجموعة من الأمثلة والأدلّة على التقارب بين مُفردات القرآن بحيث لا يصل أبدا إلى التطابق أو ما يُقال عنه الترادف، فالكون كله بما فيه من مخلوقات عظيمة لم تُعجزه، فهل تُعجزه الألفاظ حتى نقول إنّ هذه المفردة تحمل معنى تلك المفردة، تعالى الله عن ذلك علّوا كبيرا.
مشاركة :