مُلفتة للنظر ومُحفزة للفكر هذه الكلمة «أبق» إذا ما قورنت بكلمات متشابهة لها مثل فرّ وهرب وهزم، مما يُشجعنا وصدورنا مشروحة للقول إن الكلمة في القرآن لا تُغني عنها أي كلمة أُخرى مهما بلغ التقارب بين الكلمتين، فكل كلمة في عمقها ترفض الترادف الذي يقول فيه البعض، وتأنف بشدة من قول إن هذه الكلمة أو تلك زائدة أو ما جاءت إلا للتوكيد أو ما شابهه من أغراض، فعلى نفي الترادف وبشكل مطلق سنورد مثالاً واحدًا في هذا الحيز المُتاح لنا وكذلك نُقدم مثالا على القطع بعدم وجود زوائد لغوية في مُحكم كتابنا الكريم لأي غرض بلاغي. في الاستعمال القرآني لا تُستعمل كلمة «أبق» إلا في حالة الفرار من السيد عصيانًا، وليس لأي غرض آخر من أُمور الدنيا المادية، لذا ففي حالة سيدنا يونس عليه السلام لا يكتمل المعنى إلا من خلال لفظة «أبق» وهذا ما سيؤكده ويُجليه النظر في الكلمة الأخرى القريبة منها والتي لا تُطابقها في المعنى ألا وهي فرّ. فرّ... تعني ترك المكان الذي تشغُله فيصبح مكشوفًا خوفًا، وهي من افترار الشفتين بحيث تنكشف الأسنان، ويُقال افترت شفتاه عن ابتسامة جميلة وكشفت عن أسنانه، فالفرار لا يكون إلا خوفًا وهذا ما يميزه عن الأبق بسبب العصيان كما في حالة سيدنا يونس، فموسى الكليم عليه السلام فرّ لمّا خاف باحثًا عن الأمن والطمأنينة، وهذا أمر يستوجب الدراسة والتدبير والتخطيط للحصول على الأمن المنشود، «ففررت منكم لما خِفتكم» الشعراء 21 قالها موسى لفرعون في مناظرته ومُحاججته حين أرسله الله إليه، وفي سورة الأحزاب 16 «قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل...» تكليف للنبي بإخبار المنافقين بأن الفرار من المعركة لن يُجدي نفعًا معكم، وقد يكون الفرار بالمعنى الإيجابي حين فرارًا إلى الله بترك أماكن المعصية التي يُخاف عاقبتها إلى أماكن الطاعة التي يُرجى الطمأنينة منها، فالفرار لا علاقة له بالمعركة والحروب بأي شكل من الأشكال. الهرب حالة مُلاصقة ولصيقة للفرار ليست رديفة لها وليست مترادفة ولكن الفرار إذا توفر فيه أمران فإنه يُسمى هربًا، الأول إذا حدث الفرار بسرعة كبيرة والثاني أن تختفي نهائيا عن الأنظار، هنا المُصطلح الأنسب هو الهرب، والهرب أمر غير واقع ولا ممكن الحدوث مع الله لكنه يحصل مع الناس إذا اشتمل على الشرطين المذكورين السابقين «وأنا ظننا أن لن نُعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا». الهزم والانهزام والهزيمة تسلتزم وجوبًا المواجهة العسكرية التي تُسفر بالضرورة عن انهزام أحد الطرفين، وأصل الهزيمة جاء من الهزم بمعنى الكسر لذا يُقال لصوت الرعد الهزيم يأتي مُتكسرًا فيكسر المشاعر خوفًا من شدته وقوته، هذه الفروقات الدقيقة توجب علينا عقلاً أن نتجاوز نهائيا موضوع الترادف الذي يسلب من القرآن قوته البلاغية وبالتالي اعتماد الترادف يقدح في القدرة الإلهية كون القرآن كلام الله وصادرا عنه، والجزم بعدم الترادف يُقر بعظمة القرآن وبقدرة الله الذي أنزله بهذه اللغة. أما القول بالزوائد فهذه من المثالب العظيمة التي لحقت ببعض التفاسير ونقول بعض حتى لا نقع في مصيدة التعميم، والقول لا يسنده شيء أقوى من المثال، قالوا «ما» التي تأتي بعد «إذا» هي ما الزائدة وهي براءة من ذلك، فحين تأتي ما بعد إذا الشرطية فإن الجواب يكون غير متوقع ومفاجئ أما إن لم يعقب «إذا» ما فإن الجواب يكون متوقعًا وليس فيه ما يثير الدهشة والقرآن شاهدنا على ذلك، فلنأخذ الآية «وسيق الذين كفروا إلى جنهم زمرا حتى إذا جاؤوها فُتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم...» في هذه الآية جاءت «إذا» غير متبوعة بـ«ما» فالجواب ليس فيه غرابة ولا دهشة إذ أنه من الطبيعي أن تُفتح أبواب جهنم حين يصل الكافرون وسؤال الخزنة أيضًا يأتي ضمن السياق الطبيعي، لكن في الآية التالية التي تأتي «إذا» متبوعة بــ«ما» التي يُقال عنها زائدة سنلحظ الجواب غير المتوقع والذي لا يخطر على قلب بشر «حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون» الجواب الصاعق هو شهادة السمع والبصر والجلد كشاهد إدانة على كل ما بدر من الإنسان، هذا هو الفرق بين إذا منفردة وإذا متبوعة بـ(ما)، فأين الزوائد التي ادّعاها الكثير من المفسرين؟!
مشاركة :